ولما ظهرت الصوفية لم يعرف من حالهم وجود هذه الزاوية والقيام بكل وارد من الجنس وغير الجنس كما هو اليوم، بل كانوا - رضي الله عنهم - مَعنيّين بما يعنيهم، فمنهم المنقبض عن الناس شغلاً بحاله، ومنهم المخالط ينتفع الناس منه بعلومه ومعارفه وآدابه، وقد يكون منهم من يستقر بين أظهر الناس، ومنهم من يكون سائحاً إنما يلقى في الخلوات والفلوات، وقد يكون منهم من يكون أصحابه هم الذين يقومون بمثونته، أو يسأل قدر قوته، فكان أبو جعفر الحداد، وهو من أكابر المشايخ يخرج بين العشائين فيسأل من الديار حتى يحصل عل القدر المحتاج في ليلته، فيرجع، قالوا: وكان له قدم في التوكل معروف، ولم يُزْرِ به ذلك عند أحد، نعم تكون لهم رباطات فيكون فيها المتجردون من أصحابهم للعبادة كشبه حال أهل الصُّفة وذكر اليافعي رحمه الله في ذلك حكاية عن الإمام " أبي بكر " الشبلي - رضي الله عنه - قال: كان عنده في رباطه نحو أربعين مريداً يعبدون ويعيشون بالفتوح، وأنه اتفق له ذات مرة أن يفتح عليهم بشيء، حتى ضاقوا، فخرج الشيخ إليهم فحدثهم في مقام التوكل، وحضهم على الصبر، ثم ذهب عنهم، فبقوا بعده أياماً أُخر لم يأتهم شيء، فلحقتهم الضرورة، فلما كان ذلك خرج إليهم فقال لهم: إن الله تعالى أمرنا بالتوكل ورخص لنا الأسباب، فتسببوا، ففعلوا ذلك، وخرج الواحد منهم، البلد وجعل يجول في الأسواق والمجامع من غير أن يسأل أحداً وإنما يعرض نفسه لما يفتح الله تعالى من رزق، فلم يفتح عليه بشيء حتى انتهى إلى طبيب نصراني قد حلق الناس عليه، وهو يصف لهم الأدوية، فجلس بين يديه، ومد إليه يده ليجس نبضه بلا كلام، فجس الطبيب يده فقال له: أنا أعرف مرضك وأعرف دواءه، ثم قال لغلام له: عليَّ برطل من الشواء، مع خبز وحلواء، فأحضر الغلام ذلك، فقال الطبيب للفقير: أنت جائع، وهذا دواؤك، فقال الفقير: إن كنت صادقاً فمن ورائي أربعون كلهم بهذا المرض، فقال الطبيب لأصحابه: أحضروا من هذا الطعام ما يكفي أربعين، فأحضروا ذلك، فأمر الطبيب من يحمله، وأمر الفقير أن يمشي معهم إلى أصحابه، فلما خرجوا تبعهم الطبيب مستخفياً ليعلم أصدق الفقير أم لا؟ فأدخلوا ذلك إلى الرباط واستدعوا الشيخ فخرج اليهم، فوضعوا الطعام بين يديه فقال: ما هذا؟ فقص عليه الفقير القصة على وجهها فقال لهم: أفترضون أن تأكلوا طعام رجل من غير أن تكافئوه؟ فقالوا: فكيف نكافئه يا أستاذ؟ فقال: تدعون له، فأخذوا في الدعاء له، والطبيب في كل ذلك ينظر إليهم من طاق، فلما رأى صدق القول، ورأى حالهم من المحافظة على الحقوق، وارتفاع هممهم مع غاية الحاجة من غير أن يتناولوا الطعام قبل المكافأة ألقى الله تعالى الأيمان في قلبه، فدخل عليهم وقال للشيخ: مدَّ يدك، وتشهد شهادة الحق ودخل في صحبتهم فصار من الصوفية، ولله الحمد، فأنظر أيها الناظر في حكمة المولى المتفضل كيف أمسك عن أوليائه الرزق ليخرجوا إلى الخلق فيصطادوا هذا الولي الروميّ حين حان أوان الوصال والخروج من سجن القطيعة إلى حضرة مولاه، فسبحان من يقرب من يشاء، وهو ذو الفضل العظيم، وإنما هي السابقة " وكلّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَه " فكم من ولي لله تعالى في وسطه زنّار، وكم من كافر يؤذن فوق المنار، نسأل الله تعالى السلامة والعافية، ويظهر من القصة أن هؤلاء الفقراء يأتيهم الفتوح لرباطهم، لا أن " الطعام " يخرج لهم من دار الشيخ كما جرى في عرف اليوم، بل قد أشركوا الشيخ في طعامهم في هذه القصة.