فصرنا إليها، واستأذنا، فلما مثلنا بين يديها، أنكرتني وقالت: «من الشيخ» ؟ قلت: «الخليع، شاعر العراق؛ ومعي هدية عبدك ضمرة» .
فصاحت في الدار: «تملك» ! فإذا جارية كأنها الظبية المنفلتة من الشبكة، قالت لها: «خذي هذه الهدايا، وفرقيها على جواري الدار» ، ثم قالت:
«أيطمع الخنوص أن يجتمع معي، بعد قبولي الهدية، في ثلاثين سنة» ؟
قلت لها: «العفو عند المقدرة يعدل عتق رقبة» ، قالت: «ففي خمس عشرة سنة» ؟ قلت لها: «أنقصيها، أولى بك» . قالت: «ففي ثلاث سنين» ، قلت لها: «حطة أخرى، وقد اجتمعنا» ، قالت: «لا، والله، لا آكل ولا أشرب حتى آتيه» .
وأمرت أن يسرج؛ وبادرت إلى باب ضمرة مبشراً، فما وصلت أو سمعت صلاصل اللجم، فإذا هي قد سبقتني في جواريها وخدمها.
فدخلت، فإذا هما يتعانقان ويتعاتبان، فقلت: يا سيدتي، ما أنتما إلى شيء أحوج منكما إلى خلوة. قالا: هو ذاك! فانصرفت عنهما، ثم بكرت عليهما، فإذا هي في المرقد الأول جالسة، عليها جبّة وشيء مطير، وهي تعصر الماء عن ذوائبها، وتصلح قرونها، فاستحيتني وقالت: لا تفكرن في ريبة، فو الله ما صلينا البارحة، حتى بعثت إلى عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي، فزوجت نفسي سيدي، ولكن صر إليه في المرقد الثاني.
فصعدت إليه، فلما نظر إلي، وثب إلي، وقبل بين عيني وقال: يا شيخ، قد جمع الله بيني وبين سيدتي بك. ثم دعا بدواة وقرطاس، وكتب إلى ابن نوح الصير في ثلاثة آلاف دينار؛ فرجعت إليها، فقالت: بماذا برك سيدي؟ فأقرأتها الرقعة، فقالت: نعجل إليك مثلها، فدعت بمال وطيار ووزنت ثلاثة آلاف دينار، ودعت بعشرة أثواب من ثياب مصر، وقالت: هذه وظيفتك علينا كل عام، فخرجت من عندي، وأخذت مرفوعي من آل سليمان، وانصرفت إلى العراق.
وكان الرشيد متكئاً، فاستوى جالساً وقال: أوه يا حسين، لولا أن ضمرة سبقني إليها، لكان لي ولها شأن من الشأن.