يستنيرون جواهرها ويستبينون بواطنها وظواهرها، ويعالجون إرواء كل فصل بِمَا يَلِيق بالحكمة المضبوطة فِي ذَلِك الْفَصْل، ويتنزلون الْأَحْكَام على الْمصَالح السوانح الْمُخْتَلفَة الْفُرُوع المتفقة الأَصْل.
وَإِلَى هَذِه النُّكْتَة أَشَارَ مَالك - رَحمَه الله - فِي متقادم العصور بقوله: " تحدث للنَّاس فَتَاوَى بِقدر مَا أَحْدَثُوا من الْفُجُور ". وَفضل الله وَاسع فَمن زعم أَنه مَحْصُور فِي بعض العصور فقد حجر وَاسِعًا، ورضى بالهوينا، وَمَا أَفْلح من أصبح بهَا قانعاً، وَرُبمَا عقب النجيب والليالي كَمَا علمت حبالى مقربات يلدن كل عَجِيب.
وَالْمَقْصُود بِهَذِهِ الْمُقدمَة أَن الإِمَام أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ لما أودع كِتَابه من الْفِقْه الَّذِي اشْتَمَلت عَلَيْهِ التراجم مَا أودع، ورصع فِي عُقُود تِلْكَ الْأَبْوَاب من جَوَاهِر الْمعَانِي وَألْحق اللّبَاب مَا رصّع، ظَهرت من تِلْكَ الْمَقَاصِد فَوَائِد، وخفيت فَوَائِد، واضطربت الأفهام فِيمَا خفى، فَمن محوم وشارد.
فَقَائِل يَقُول: اخترم وَلم يهذب الْكتاب، وَلم يرتب الْأَبْوَاب.
وَقَائِل يَقُول: جَاءَ الْخلَل من النساخ وتجزيفهم والنقلة وتحريفهم.
وَقَائِل يَقُول: أبعد المنتجع فِي الِاسْتِدْلَال، فأوهم ذَلِك أَن فِي الْمُطَابقَة نوعا من الِاعْتِدَال.
وَبَلغنِي عَن الإِمَام أبي الْوَلِيد الْبَاجِيّ أَنه كَانَ يَقُول: " يسلم للبخارى فِي علم الحَدِيث، وَلَا يسلم لَهُ فِي علم الْفِقْه " ويعلل ذَلِك بِأَن أدلته عَن تراجمه متقاطعة، وَيحمل الْأَمر على أَن ذَلِك لقُصُور فِي فكرته وَتجَاوز عَن حد فطرته،