صفين ومقتل الحسين وتشيع العراقيين وكراهيتهم لبني أمية, ورغبة الأمويين في تأديب هؤلاء العراقيين حتى لا يثوروا بهم أو يعصوا ولاتهم, ومن هنا يصبح من الضروري أن يأتي وصف المقام في صورة مقدمة للخطبة تجري على نحو شبيه بما يأتي:
كان عبد الملك بن مروان قد أرسل الحجاج واليًا من قِبَلِه على العراق, وكان أهل العراق من الشيعة يكرهون الأمويين ويعصون ولاتهم, فلمَّا دخل الحجاج المسجد وكان ضئل الجسم صعدَ المنبر وأرخى فضل عمامته على وجهه وصمت صمتًا طويلًا حتى همَّ بعض الناس أن يحصبه, وقال عمير بن ضابئ البرجمي وكان بين الناس في المسجد, قبَّح الله بني أمية إذ يرسلون إلينا مثل هذا, فرفع الحجاج ما كان أرخى من عمامته وحسرها عن وجهه وقال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ... متى أضع العامة تعرفوني
فكل هذه العبارات التي قدَّمنا بها للخطبة ليست أكثر من وصف المقام الاجتماعي التاريخي الذي قيلت فيه هذه الخطبة, وبواسطته ينتفي عن الخطبة أن يكون معناها سوء السياسة, إلى أن يكون معناها الحزم. على أن هذا المقام الذي وصفناه بكلمات قليلة يمكن أن يكون وصفه هو كل ما قيل في تاريخ الفتنة الكبرى وما بعدها, ولكن الاكتفاء بهذا الوصف المختصر يفترض أن القارئ على علم بهذا التاريخ.
ولعل السبب الرئيسي في ضرورة التزام طلاب اللغة العربية وأدبها بدراسة مقررات من التاريخ الإسلامي والفلسفة الإسلامية والتفسير والحديث والأدب والشريعة وغيرها, إن طالب اللغة العربية حين ينظر في نص أدبي معيّن ينبغي أن يكون له من المعلومات الشاملة في هذه الفروع جميعًا ما يعينه على فهم "المقام" الذي قيل فيه هذا النص حين يلخِّص له هذا المقام. وقد تعوَّدنا أن نقول لطلبتنا دائمًا عن هذه الفروع التي يطلقون عليها "العلوم المساعدة": إنها فروع إيضاح المقام النصوص التي نصادفها في التراث العربي, ويمكن إيضاح هذه النقطة بالمثال الآتي: