بشيء من الغفلة وسوء التقدير وعدم فهم المواقف الاجتماعية ومطالبها فهمًا تامًّا, وذات يوم كان الطلبة والأستاذ على هذه الحال في المدرج, وكان هذا الطالب قد تأخّر, وفجأة دخل المدرج بعد ربع ساعة من ابتداء المحاضرة فلم يتسلل إلى أقرب مقعد, ولم يحس شيئًا من الخجل, وإنما بدا أزهى من طاووس وهو يلج باب المدرج متئدًا في مشيته مع شيء من تصنّع الوقار, وقال لكل من في المدرج: "السلام عليكم" ومدَّ بها صوته. لا شكَّ أن ردَّ الفعل الوحيد لهذه العبارة التي يزعمونها مجرد تحية إسلامية أن يضحك الطلبة والأستاذ كثيرًا, فهذا الضحك هو الرد الذي إن لم يناسب "المقال" فقد ناسب "المقام" تمامًا. ولقد رأينا أن العناصر التي يشتمل عليها المقام الاجتماعي هنا هي: المحاضرة -تعود الخجل من التأخر- المتكلم الذي لم يخجل السامعون الصامتون -الأستاذ الذي صمت عند سماع العبارة- الوقار الذي تظاهر به المتكلم, وأخيرًا عبارة السلام عليكم نفسها، وربما احتملت هذ العبارة تحليلًا وظيفيًّا أو معجميًّا عند الحاجة, كأن يكون هذا الطالب ألثغ في السين مثلًا, فهذا يضيف إلى دواعي الضحك داعيًا صوتيًّا لغويًّا.
وإذا كان "المقال" المكتوب لا يقع في أثناء قراءته في وقت لاحق في مقامه الاجتماعي الذي كان له في الأصل, فإن هذا المقام الأصيل من الممكن بل من الضروري أن يعاد بناؤه في صورة وصف له مكتوب, حتى يمكن للنص أن يفهم على وجهه الصحيح. وفي بناء هذا المقام الأصيل بناءً جديدًا بواسطة وصفه, كما كان لا بُدَّ من الرجوع إلى الثقافة عمومًا والتاريخ بصفة خاصة. وكلما كان وصف المقام أكثر تفصيلًا كان المعنى الدلالي الذي نريد الوصول إليه أكثر وضوحًا في النهاية حين تصبح كل عبارة من عبارات النص واضحة بما يجليها من القرائن الحالية التاريخية والقرائن المقالية التي في وصف المقام؛ فالذين يقرءون خطبة الحجاج بن يوسف الثقفي على منبر الكوفة دون أن يعرفوا المقام الذي قيلت فيه هذه الخطبة, ربما اتهموا الحجاج بتهم بعيدة عنه؛ أولها: سوء السياسة ما دام قد استهلّ ولايته على قوم لم يجربهم من قبل ولم يرهم بكل هذا العنف, ولكن المقام الذي يشتمل على إيضاح العلاقة بين العراقيين وبين بني أمية ربما شمل من الحوادث الماضة حادثًا كقتل عثمان ومعركة