ربطت بينهما في السياق, أي: إن معنى الغزل أو التوبيخ إلخ لا يؤخذ من "المقال", وإنما يحتاج إلى اعتبار "المقام" بالضرورة.

دعنا نتأمل مثلًا مما يوضح ضرورة اعتابر "المقام" في تحديد المعنى الدلالي, كلنا قد يعلم أن "يا" من حروف النداء, وأن كلمة "سلام" اسم من أسماء الله تعالى, وهي كذلك ضد الحرب, فإذا أخذنا بالمعنى الوظيفي لأداة النداء, والمعنى المعجمي لكلمة "سلام", حين ننادي "يا سلام", فإن المعنى الحرفي أو المقالي أو ظاهر النص أننا ننادى الله سبحانه وتعالى لا أكثر ولا أقل. ولكن هذه العبارة صالحة لأن تدخل في مقامات اجتماعية كثيرة جدًّا, ومع كل مقام منها تختلف النغمة التي تصحب نطق العبارة, فمن الممكن أن تقال هذه العبارة في مقام التأثّر, وفي مقام التشكيك, وفي مقام السخط, وفي مقام الطرب, وفي مقام التوبيخ, وفي مقام الإعجاب, وفي مقام التلذذ, وفي مقامات أخرى كثيرة غير ذلك، وظاهر النص في عبارة "السلام عليكم" أنها تحية إسلامية يجاب عليها بأحسن منها أو مثلها, ولكن هذه العبارة بذاتها قد تتحوّل إلى معنى المغاضبة, فقد يطول النقاش بينك وبين إنسان في موضوع ما, ويتمسَّك كلٌّ منكما برأيه, فحين تيأس من إقناع صاحبك, وتريد أن تعلن له عن انتهاء المقابلة بالمغاضبة توليه ظهرك منصرفًا وتشير بيديك إشارة الذي ينبذ شيئًا وراء ظهره من فوق كتفه, وتقول مع هذه الإشارة: "السلام عليكم" وتذهب مغاضبًا. فهذا المعنى لا يفهم من مجرد المعنى الوظيفي منفردًا, ولا المعجمي منفردًا, ولا هما معًا, ولكنه يتوقف في النهاية على "المقام" الاجتماعي المعين. وقد تقال هذه العبارة بعينها فيفهم منها معنى الهزل في مقام يتعيّن فيه ذلك, ولبيان هذا المقام وأبعاده الاجتماعية يمكن أن نتصوره على النحو التالي: الأستاذ واقف بالمدرج يلقي محاضرته على ما يقرب من مائتي طالب, وقد انهمك في شرح نقطة هامة من نقاط المحاضرة, والطلبة ينصتون بشغف واهتمام بما يقوله الأستاذ حتى ليسمع كل منهم تردد أنفاسه, وقد تعود هؤلاء الطلبة من أستاذهم عدم الرضى عن التأخر عن بدء المحاضرة, فكان الواحد منهم إذا تأخَّر دخل المدرج وهو يحس بقدر غير قليل من الخجل, فيدخل المدرج متسللًا على أطراف أصابعه, ويجلس على أقرب مقعد إلى باب الدخول نجده خاليًا. ومن الطلبة واحد عرف بينهم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015