قدومه, وفجأة يقدم عليك زائر آخر للطبيب فتضمكما الحجرة ولا ثالث لكما. فلو سكتُّما ولم يفتح أحدكما بابًا للكلام لأصبح الموقف بينكما مفعمًا بنوع من الحرج الاجتماعي الذي يشعر معه كل منكما برغبة في إنهاء الموقف. والحيلة الاجتماعية لتجنُّب هذا الحرج هي فتح موضوع لتبادل الكلام. ولكن كيف يمكن لأحدكما أن يفتح موضوعًا وليس بينكما تجارب مشتركة, ولم ير أحدكما الآخر قبل اليوم. الجواب على ذلك أيضًا أن المجتمع الذي اخترع حيلة فتح الموضوع حدَّد بعض الموضوعات العامة الطابع لهذا الغرض؛ بحيث لا يتعب إنسان في البحث عن موضوع, وهذه الموضوعات ذات طابع عام غير شخصي؛ بحيث لا يتأذّى بفتحها إنسان لا غائب ولا حاضر, فمن ذلك الكلام في الطقس وما يحس المتكلم والسامع من حرّ أو برّ أو جوٍّ ربيعي أو خريفي لطيف مع تذكر تجارب سابقة عن حالات جوية تستحق التذكر. وقد تدعو مناسبة زيارة الطبيب إلى أن يفصح كل منهما للآخر عمَّا يشكو منه وعن تطور مرضه, ومن الموضوعات المفضَّلة في هذه المواقف في البلاد العربية بخاصة الكلام في السياسة وفي القضايا القومية, ويروي بعض الظرفاء أنه إذا تقابل إنجليزيان فكلاهما في الطقس, وإذا تقابل عربيان فكلامهما في السياسة, وإذا تقابل يونانيان فكلاهما في المطاعم, والكلام في أوساط النساء عن الأزياء والأولاد وبين الخدم عن أسرار المخدومين, وبين الطلبة عن الامتحان والأساتذة وهلم جرا. والكلام في كل ذلك ليس مقصودًا لذاته إلّا حين يتحول اللغو إلى مناقشة تتطلَّب أن يكون لكل من الطرفين رأي يدافع عنه, ولكن المقصود باللغو في كل هذه الحالات رفع الحرج الاجتماعي عن شريكين في موقف خلقته الصدفة.

أما نوع المقامات الذي اكتمل فيه الطابع الاجتماعي فهو الذي يتحقق فيه وجود عناصر تجعل المقام مركبًا لا بسيطًا, أي: تجعله "مقامًا" لا "موقفًا" كمالمثال الذي أوردناه من قبل عن الرجل الذي قال لزوجته: "أهلًا بالجميلة" فقد ذكرنا أن الاحتمالات التي تحتملها هذه التحية تتنوع بتنوع المقامات الممكنة من مقام غزلٍِ إلى مقام تبويخٍ إلى مقام تعيير وكيد, ولا يمكن لواحد من هذه المعاني أن يؤخذ أخذًا مباشرًا من المعنى المعجمي لكلمة "أهلًا" ولا المعنى المعجمي لكلمة "الجميلة", ولا مع المعنى الوظيفي لأي منهما, ولا للباء التي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015