بالنسبة إليك أنت فقط في سيارتك فلا يسمعها معك إنسان, فهذا موقف فردي أيضًا, ولا يتوافر له عناصر المقام الاجتماعي. ومن قبيل ذلك أيضًا من يغنِّي لنفسه دون أن يسمعه أحد, أو على الأقل دون أن يكون غناؤه للإسماع. والذي يتثاءب ويختم تثاؤبه بنداء لفظ الجلالة, فكل هؤلاء المتكلمين يقصر أمر الموقف معهم عن أن يكون مقامًا اجتماعيًّا بالمعنى الذي نقصده, ولكن وصف أيّ "موقف" من هذه المواقف بأنه "اجتماعي" لا يأتي من طبيعة تكوينه, وإنما يأتي حين ننظر إليه باعتباره نمطًا سلوكيًّا معينًا داخلًا في نسيج ثقافة اجتماعية ما, بمعنى أن أفراد المجتمع جميعًا يقفون هذه المواقف بعينها عندما تتهيأ لها المناسبة, ولكنهم يقفونها أفرادًا. وهذه الأنماط من السلوك يتلقاها الفرد عن مجتمعه فيكتسبها منه, ويصبح سلوكه مشروطًا بطرقها مفرغًا في قوالبها التي حددها المجتمع, وهذا مناط لزعمها اجتماعية في أصلها. فالفرد يتعلم من مجتمعه كيف يقرأ القرآن بصوت مسموع وبنغمات ترتيلية خاصة, ويكتسب معتقداته في طفولته من المجتمع ويتعلم منه كيف يدعو الله, وكذلك يتعلم كيف يستشهد لنفسه بالشعر أو أي شكل تعبيري آخر بحسب المناسبة دون أن يسمع الناس حوله ما يقول. ويتعلم من المجتمع كيف يختم التثاؤب بذكر الله بصوت مسموع, فهذه المواقف على رغم كونها لا تحمل طابع الاتصال الاجتماعي يمكن اعتبارها أنماطًا سلوكية لغوية, فينسب إليها -لكونها أنماطًا- قدر من الطابع الاجتماعي.

وهناك نوع من المقامات الاجتماعية يمكن أن نسميه مقامات اللغو الاجتماعي, أو كما يسميها مالينوفسكي phatic communication يتبادل الناس فيها الكلام, ولكنهم لا يقصدون به أكثر من شغل الوقت, وحل موقف اجتماعي لولا هذا اللغو لكان فيه حرج. والكلام الذي يقال في هذا المقام ليس مقصودًا لذاته, فقد يكون موضوعه الطقس أو السياسة أو أيّ موضوع عام آخر, والحقائق التي يشتمل عليها هذا الموضوع معروفة عند طرفي المحادثة فلا يفيد أحدهما من سماعها أيّ قدر من المعلومات الجديدة, ولكن كلًّا من الطرفين يلغو رفعًا للحرج الذي يتوقعه نتيجة للصمت. مثال ذلك أن تكون في حجرة انتظار أحد الأطباء بمفردك ولم يحضر الطبيب إلى عيادته فتظلّ بمفردك تنتظر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015