"المعنى الوظيفي", كما يحتاج إلى العلاقات العرفية بين المفردات ومعانيها "المعنى المعجمي"؛ إذ منهما معًا يكون معنى "المقال"، وانفراد العلاقات العرفية بين المفردات ومعانيها بالوجود يجعل الأمر بحاجة أيضًا إلى معنى "المقام" أو المعنى الاجتماعي الذي هو شرط الاكتمال "المعنى الدلالي" الأكبر، ومعنى هذا بالتالي أننا حين نفرغ من تحليل الوظائف على مستوى الصوتيات والصرف والنحو, ومن تحليل العلاقات العرفية بين المفردات ومعانيها على مستوى المعجم, لا نستطيع أن ندَّعي أننا وصلنا إلى فهم المعنى الدلالي؛ لأنَّ الوصول إلى هذا المعنى يتطلّب فوق كل ما تقدَّم ملاحظة العنصر الاجتماعي الذي هو المقام.
وهذا العنصر الاجتماعي ضروري جدًّا لفهم المعنى الدلالي, فالذي يقول لفرسه عندما يراها، "أهلًا بالجميلة" يختلف المقام معه عن الذي يقول هذه العبارة لزوجته, فمقام توجيه هذه العبارة للفرس هو مقام الترويض, وربما صحب ذلك ربت على كتفها أو مسح على جبينها. أما بالنسبة للزوجة فالمعنى يختلف بحسب المقام الاجتماعي أيضًا, فقد تقال هذه العبارة في مقام الغزل أو في مقام التوبيخ أو التعيير بالدمامة. فالوقوف هنا عند المعنى المعجمي لكلمتي "أهلًا" و"الجميلة", وعلى المعنى الوظيفي لهما وللباء الرابطة بينهما, لا يصل بنا إلى المعنى الدلالي, ولا يكون وصولنا إلى هذا المعنى الدلالي إلّا بالكشف عن المقام الذي قيل فيه النص.
والذي يتكلم إلى نفسه يكشف عن مقام من نوع آخر. ولست أحب أن أشير هنا إلى الجانب النفسي والطبي لهذا المقام؛ لأن ذلك أمر لا يتصل بالدراسات اللغوية إلّا من حيث هو جزء من "مقام" ما. ومهما يكن من أمر فإن هذا المقام وأشباهه كمقام الدعاء والصلاة وتقييد المواعيد والعنوانات وأرقام التليفون في المفكرة, وكالقراءة في الخلوة ونحوها, هو مما يعوزه الطابع الاجتماعي الواضح, حتى إن هذه المواقف لتصلح أن تسمَّى "مواقف" فردية لا "مقامات" اجتماعية. ومن قبيل ذلك أيضًا أن تقود سيارتك بنفسك ثم نجد أمامك شخصًا آخر يقود سيارة فلا يلتزم بها قواعد المرور ويسبب لك شيئًا من الارتباك والضيق, فإذا بك تصب سيلًا من الاحتجاجات والشتائم المسموعة