والتاريخي منعزل تمامًا عن كل ما يحيط بالنص من القرائن الحالية التي تشبه ما يسمونه في المرافعات cirumstantial evidenec, وهي القرائن ذات الفائدة الكبرى في تحديد المعنى, ولقد كان علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- فاهمًا تمامًا لكل هذه الحقائق التي نحاول شرحها حين ردَّ على هتاف الخوارج "لا حكم إلّا الله" بقوله: "كلمة حق أريد بها باطل", وكان يعني أن الناس ربما قنعوا بالمعنى الحرفي لهذا الهتاف, أي: بمعنى "ظاهر النص" فصدَّقوا أن الخوارج أصحاب قضية تستحق أن يدافع الناس عنها, وربما غفل الناس عن المقام الحقيقي الذي ينبغي لهذه الجملة أن تفهم في ضوئه, وهو مقام "محاولة إلزام الحجة سياسيًّا بهتاف ديني" فالمقام في هذا الهتاف من السياسة والمقال من الدين، وكان ينبغي للناس أن يفهموا المقال في ضوء المقام.
والفرق بين ما يسميه الناس "نص القانون" وبين ما يسمونه "روح القانون" هو فرق ما بين الاكتفاء بمعنى "المقال" وبين عدم الاكتفاء به والغوص وراء المراد الحقيقي للمشروع وهو معنى "المقام", يقول أحمد أمين: "بل يظهر لي أن عمر كان يستعمل الرأي في أوسع من المعنى الذي ذكرنا، ذلك أن ما ذكرنا هو استعمال الرأي حيث لا نصَّ من كتاب ولا سنة، ولكنا نرى عمر سار أبعد من ذلك، فكان يجتهد في تعرف المصلحة التي لأجلها كانت الآية أو الحديث، ثم يسترشد بتلك المصلحة في أحكامه، وهو أقرب شيء إلى ما يعبَّر عنه بالاسترشاد بروح القانون لا بحرفيته". وأقول أنا: إن معنى ذلك أن عمر لم يكن يكتفي بمعنى "المقال", أو بعبارة أخرى: لم يكن يكتفي بمنطوق الآية أو الحديث, وإنما كان يتوغّل في سبيل معرفة أسباب النزول وظروفه الاجتماعية والتاريخية, أي: إنه كان يتخطَّى المعنى الحرفي إلى المعنى الاجتماعي, ولا يقف عند معنى "المقال" وإنما يضمّ إليه معنى "المقام". ومن قبيل استغلال معنى "المقال" والمراوغة بنفي "معنى المقام" ما حدث من أنَّ اليهود في المدينة حينما سمعوا الآية القائلة: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا