لأنها لم تتخطّ النقد الشكلي إلى نقد المضمون إلّا مع الكثير من القصور, حتى على مستوى فهم القدماء أنفسهم لفكرة النقد.

ولكنَّ البلغاء في إطار شكلية البلاغة التي ذكرناها ربما فطنوا إلى أن اللغة ظاهرة اجتماعية وأنها شديدة الارتباط بثقافة الشعب الذي يتكلمها, وأن هذه الثقافة في جملتها يمكن تحليلها بواسطة حصر أنواع المواقف الاجتماعية المختلفة التي يسمون كلًّا منها "مقامًا", فمقام الفخر غير مقام المدح, وهما يختلفان عن مقام الدعاء أو الاستعطاف أو التمني أو الهجاء, وهلم جرا. وكان من رأي البلاغيين أن "لكل مقام مقالًا" لأن صورة "المقال" speech event تختلف في نظر البلاغيين بحسب المقام" context of sotuation, وما إذا كان يتطلب هذه الكلمة أو تلك, وهذا الأسلوب أو ذاك من أساليب الحقيقة أو المجاز, والإخبار أو الاستفهام, وهلم جرا. ومن عباراتهم الشهيرة في هذا الصدد قولهم: "لكل كلمة مع صاحبتها مقام", وبهذا المعنى يصبح للعلم الجديد الذي يأتي من امتزاج النحو والمعاني "مضون"؛ لأنه يصبح شديد الارتباط بمعاني الجمل ومواطن استعمالها وما يناط بكلِّ جملة منها من "معنًى". ولقد كان البلاغيون عند اعترافهم بفكرة "المقام" متقدمين ألف سنة تقريبًا على زمانهم؛ لأن الاعتراف بفكرتي "المقام" و"المقال" باعتبارهما أساسين متميزين من أسس تحليل المعنى يعتبر الآن في الغرب من الكشوف التي جاءت نتيجة لمغامرات العقل المعاصر في دراسة اللغة.

وفكرة "المقام" هذه هي المركز الذي يدور حول علم الدلالة الوصفية في الوقت الحاضر, وهو الأساس الذي ينبني عليه الشق أو الوجه الاجتماعي من وجوه المعنى الثلاثة, وهو الوجه الذي تتمثَّل فيه العلاقات والأحداث والظروف الاجتماعية التي تسود ساعة أداء "المقال". ومن المعروف أن إجلاء المعنى على المستوى الوظيفي "الصوتي والصرفي والنحوي", وعلى المستوى المعجمي فوق ذلك لا يعطينا إلّا "معنى المقال" أو "المعنى الحرفي" كما يسميه النقاد, "أو معنى ظاهر النص" كما يسميه الأصوليون, وهو -مع الاعتذار الشديد للظاهرية- معنى فارغ تمامًا من محتواه الاجتماعي

طور بواسطة نورين ميديا © 2015