يحلو لكثيرين من أساتدة اللغة العربية في أيامنا هذه أن يشيروا إلى ما يعتبرونه نقطة ضعف في النحو العربي, وهو ارتباطه الشديد بطابع الصناعة, حتى إنه يعرف أحيانًا باسم "صناعة النحو", ثم خلوّه من الارتباط بالمضمون مما جعله يبدو في نظرهم جسدًا بلا روح، والمضمون الذي يقصده هؤلاء هو موضوع علم المعاني, فهم يقولون: إن علمي النحو والمعاني لا يمكن الفصل بين أحدهما وبين الآخر إلّا مع التضحية بالمعنى على مستوى العلمين جميعًا, ويوغلون في المحاجَّة فيقولون: إن ما تركه لنا عبد القاهر الجرجاني من دراسات في دلائل الإعجاز وغيره يعتبر إشارات ذكية إلى الطريق الذي كان على النحاة أن يسلكوه بدراستهم للنحو, وبخاصة ما قام به عبد القاهر من دراسة "للنظم" في اللغة العربية. وأنا أوافق موافقة تامة على كل هذا الذي يدور في أذهان الأساتذة الكرام, وألاحظ أن هذه العبارات الصادقة كانت تدعو إلى الغوص في خِضَمّ هذه المشكلة بإيضاح الطريقة التي يمكن بواسطتها أن يصبح للنحو العربي "مضمون", والتي يمكن بها مزج معطيات علم النحو بمعطيات علم المعاني لنصل منهما معًا ممتزجين إلى تنظيم دراسة الفصحى على أساسٍ جديد لم يخطر ببال سيبويه ولا ببال عبد القاهر، ولكن لم يحاول واحد من الأساتذة أن يمزج أحد العلمين بالآخر ليخرج منهما دراسة نحوية تعنى بالتركيب كما تعنى بالتحليل, وتختص بمعاني الجمل كما تحتفي بمعاني الأبواب الفرعية التي في داخل الجمل.
ولكن إذا فهمنا من كلمة "صناعة" الدراسة الشكلية التي تعنى بأشكال المباني المختلفة للمعاني المختلفة, فلا بُدَّ من الاعتراف بأن علوم البلاغة العربية كلها -وليس علم المعاني فقط- دراسة شكلية, ومن ثَمَّ تكون البلاغة صناعة كما كان النحو صناعة. ولهذا السبب بالذات لم تقم علوم البلاغة في أية مرحلة من مراحل تاريخها الطويل بدور المنهج النقدي الأدبي المتكامل