القدماء أصل اللغة بالتأمل, فانقسموا في رأيهم إلى قسمين يقول أحدهما "بالتوقيف", ومعناه أن اللغة هبة من الله للإنسان في إجمالها وتفصيلها, أي: إن كل كلمة في اللغة جاءت من عند الله تعالى حتى "القصعة" و"القصيعة" كما روى بعضهم, واحتجوا في تبرير هذا القول بما ورد في الكتب المقدسة ومنه الآية القرآنية: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} , وقسم آخر يقول بالمواضعة, ومعناها أن اللغة من وضع المجتمع تعارف الناس عليها رموزًا ومعاني وطرق تركيب ومخارج أصوات, وهلمَّ جرا من كل ما يصلح للتعارف. وأنا بدوري أقول: إن اللغة التي علمها الله تعالى لآدم هي الاستعداد الفطري لاتخاذ لغةٍ ما والتفاهم بواسطتها, فاللغة التي وهبها الله له ظاهرة اجتماعية, وكان عز وجلe Saussure يسميها langage, وليست لغة بعينها مما يسميه هو langue, ولا كلامًا مما يسميه parole. وفي كتابي "اللغة بين المعيارية والوصفية" نقاش لطبيعة الرموز اللغوية, فمن شاء فليعد إليه, وقد كان ممن الممكن أن اكتفي بهذه الإشارة لولا أنني أحب هنا أن أضيف بعض التأكيد للعلاقة العرفية بين الكلمة وبين معناها.

من الملاحظ أن المسمَّى الواحد تختلف أسماؤه من لغة إلى لغة؛ فالرجل في العربية يقابله man بالإنجليزية وكذلك lhomme بالفرنسية وهلم جرا. وقد يقول قائل: إن "الرجل" وman و lhomme يختلفون من حيث اللون والعادات والأخلاق والنظرة إلى الحياة والتاريخ بقدر ما يختلف الرجل العربي عن الرجل الإنجليزي والرجل الفرنسي, فالمفهومات مختلفة بين الكلمات الثلاثة, وهذه مبررات مقبولة لاختلاف التسمية من لغة إلى لغة, ولكن هذا ليس صوابًا؛ لأن الثلاثة تصدق عليهم بالعربية كلمة "الرجل", وبالإنجليزية كلمة man, وبالفرنسية كلم lhomme, والعمل الواحد أو الحدث الواحد أيضًا تعبر عنه اللغات الثلاث بطرق مختلفة مثل: "يأكل" وmanger to eat, ومعنى هذا باختصار أن كل مجتمع من المجتمعات الثلاثة التي عبَّرت عن هذه المعاني اختار طريقة خاصة للتعبير عنها؛ فأصبح المعنى الواحد الذي في متناول المتكلمين باللغات المختلفة يحتمل أن تتعدد وسائل الرمز له بتعدد المجتمعات, فكيف يصل كل

طور بواسطة نورين ميديا © 2015