قال شيخ الأمة علم الأئمة، ناصر السنة، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن الجوزي - رحمة الله عليه - الحمد لله على الإنعام السرمد، والصلاة على نبيه أحمد، وعلى من صحبه وتبعه من أحمر وأسود - هذه خطب أنشأتها منتقاة مما كنت أرتجله وتكتب عني في مجالس وعظي على آيات تقرأ بين يدي في الحال، جمعتها من الملتقطين لها، وألفتها على حروف المعجم والله الموفق.
الخطبة الأولى الحمد لله الذي بيده الإيجاد والإنشاء، والإنجاد والإعطاء، والأمانة والإحياء، والإعادة والإبداء، والإنعام والآلاء، والحط والعلاء، والرخص والغلاء، والعافية والبلاء، والداء والدواء، خلق الإنسان وخلقت له الأشياء، فمن خلقه كانت الأرض والسماء، وهبت الريح وجرى الماء، وتكون الصباح والمساء، وعلمه الخط فجاء الهجاء، الألف والباء والتاء والثاء، والجيم والحاء والخاء، والدال والذال والراء والزاء، والسين والشين والصاد والضاد والطاء والظاء، والعين والغين والفاء والقاف والكاف والميم والنون والواو والهاء، واللام الألف، والياء، ولقنه الإقرار بالقدر فالمنع منه والعطاء (قُل اللهُمَّ مالِكَ المُلكِ تُؤتي المُلكَ مَن تَشاءُ. وتَنزِعُ المُلكَ مِمَّن تَشاءُ) يا لها من كلمات ما اهتدى إليها الفصحاء، تأثيرها عند الحساد الأسى والبرحاء والصعداء، وأين هم وقع فيهم يا ابن حلا الجلاء.
الحمد لله الذي أنشأ الآدمي من ماء مهين ضعيف وقوى، وغربل اللبن بغربال اللطف وروى، وفتق معاه للقوت فتقوى، بصنعته استدار المصير وتحوى، وبشكر نعمته سجد المصلي وخوى، يصوركم في الأرحام ولا يدرى آدم ولا حواء، وينزل القطر إذا شاء فيبهت السماك والعوى، واها لفصاحتي شوت أكباد حسدتي فلا بطل الشوى، لا ينسى رزق الحمل ولا يهمل قوت النمل ولا الحيات في الرمل تطوى، أجل فكرك في أركانك وتدبر بناء بنانك ويكفي في العبر نطق لسانك كلما تلوى، فإذا عرفت ما أنعم به وأبلى، وتيقنت ما أسدى وأولى، (سَبِّح اِسمَ رَبِّكَ الأعلى، الّذِي خَلَقَ فَسَوّى) .
الحمد لله الذي جل وجلى، ودفع عمن لطف به كلا، وتقدس عن مثل وشبه كلا، يراه المؤمنون في الجنة إذا تجلى، ويضرب الكافر بصوت القلى فيتقلى، فيقال: ألا كان هذا قبل هذا ألا، (قد أفلَحَ مَن تَزَكَّى، وَذَكرَ اِسمَ رَبِّه فَصَلّى) ،أحمده حمد عنا تبلا ولا تبلى، وعلى جميع أصحابه وأبو بكر قبلاً، وعلى عمر الذي لم تدع هيبته لكسرى عقلاً، وعلى عثمان الذي فضله من الشمس أحلى، وعلى علي الذي ما أقدم قط فتولى، أفيدعي أنه يحبه ونبغضه نحن ألا، على عمه العباس الذي أصبح السحاب ببركته مستهلاً، جد سيدنا ومولانا الإمام المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين - رحمة الله عليه - الذي أمطر جود جوده وبلا لا طلا، لا ينتفع من خرج عن طاعته وإن صام وصلى، صلى من حيث سبق المتقدمين وكلهم لسبق سيرته صلى، يا لها من كلمات ملأت شرق الفصاحة وغربها وخصت نهر معلى.
الحمد لله سامع السر والنجوى، وكاشف الضر والبلوى، ومغيث المتلهف قبل الشكوى، ومبلغ المؤمل غاية أمله القصوى، يسوق الرزق في البر إلى الذر والأروى، كم أعطش عدله وكم أغبق فضله وأروى، من تفكر في ذاته وقع بعيد المهوى، ومن خالفه باتباع هواه ضره ما يهوى، لا ينظر إلى صور الأعمال وإنما يناله التقوى، مد أمد الحلم عن فرعون وقد أضل وأغوى، إلى أن غرق يوم اليم أين المنقلب والمثوى، كم آية صرحت وكم زاجرة لوحت فلم ينتفع بالصريح ولا الفحوى، بليت جوارحه وبقيت مقابحه تروى، ويبس زرعه فخلا ربعه وأقوى، وكم أهلكت الذنوب من كان أكثر منه وأقوى، (وقَومَ نُوحٍ مِن قَبلِ إنَّهُم كانُوا هُم أظلَمَ وَأَطغَى، والمُؤتِفكَة أهوى) .
الخطبة الأولى