الثاني: إنه للمشركين؛ لقوله تعالى: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً} [الإسراء: 90].
والثالث: إنه للمسلمين. وهو قول الأصم والجبائي وأبي مسلم، واستدلوا عليه بوجوه (?):
الأول: أنه قال في آخر الآية: (ومن يتبدل الكفر بالإيمان) وهذا الكلام لا يصح إلا في حق المؤمنين.
الثاني: أن قوله: {أم تريدون} يقتضي معطوفا عليه وهو قوله: {لا تقولوا راعنا} [البقرة: 104] فكأنه قال: وقولوا انظرنا واسمعوا فهل تفعلون ذلك كما أمرتم أم تريدون أن تسألوا رسولكم؟
الثالث: أن المسلمين كانوا يسألون محمدا صلى الله عليه وسلم عن أمور لا خير لهم في البحث عنها ليعلموها كما سأل اليهود موسى عليه السلام ما لم يكن لهم فيه خير عن البحث عنه.
الرابع: سأل قوم من المسلمين أن يجعل لهم ذات أنواط كما كان للمشركين ذات أنواط، وهي شجرة كانوا يعبدونها ويعلقون عليها المأكول والمشروب، كما سألوا موسى أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة.
قال الشيخ ابن عثيمين: " والآية صالحة للأقوال كلها؛ لأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول للجميع؛ لكن تخصيصها باليهود يبعده قوله تعالى: {كما سئل موسى من قبل}؛ فمعنى الآية: أتريدون أن توردوا الأسئلة على رسولكم كما كان بنو إسرائيل تورد الأسئلة على رسولها؛ ولا شك أن الاستفهام هنا يراد به الإنكار على من يكثرون السؤال على النبي صلى الله عليه وسلم" (?).
واختلف أهل العربية في معنى (أم) التي في قوله: {أَمْ تُرِيدُونَ} [البقرة: 108]، وذكروا وجوها (?):
الأول: أنها (متصلة) عديلة (الألف) بمعنى الاستفهام، وتأويل الكلام: أتريدون أن تسألوا رسولكم؟ . وهذا قول بعض البصريين.
قال الحافظ ابن كثير: "هي على بابها في الاستفهام، وهو إنكاري، وهو يعم المؤمنين والكافرين، فإنه، عليه السلام، رسول الله إلى الجميع، كما قال تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء: 153] " (?).
قال الواحدي: " فإن قيل: كيف يُرَدّ {أم تريدون} عليه، والأول خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والثاني خطاب للجماعة؟ قيل: الله تعالى رجع في الخطاب من التوحيد إلى الجمع، وما خوطب به عليه السلام فقد خوطب به أُمّته، فيكتفى به من أُمّته، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1]، فوحَّد ثم جَمَعَ، كذلك فيما نحن فيه، ويكون المعنى على هذا: أيُّهما عندكم العلم بأن الله قدير، وأن له ملك السماوات والأرض، أم إرادة سؤال الرسول الآيات؟ والله تعالى علم أيهما عندهم" (?).
والثاني: أنها (منقطعة) بمعنى استفهام منقطع من الكلام، "كأنه قال: أتريدون، وهذا موجود في كلام العرب" (?).
وليس قوله: {أم تريدون} على الشك، ولكنه قاله ليقبح له صنيعهم، ومنه قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [الأحقاف: 8]، "أي: بل يقولون" (?)، ومن ذلك قول الأخطل (?):