والراجح في هذه المسألة أن يقال: بأن الله جل ثناؤه قد أمر المؤمنين بتوقير نبيه صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، وأمرهم أن يتخيروا لخطابه من الألفاظ أحسنها، ومن المعاني أرقها، فكان من ذلك قولهم: (راعنا) لما فيه من احتمال معنى: ارعنا نرعاك (?)، إذ كانت المفاعلة لا تكون إلا من اثنين، كما يقول القائل: " عاطنا، وحادثنا، وجالسنا "، بمعنى: افعل بنا ونفعل بك (?)، فكذلك نهى الله عز وجل المؤمنين أن يقولوا: راعنا، لما كان قول القائل: راعنا، محتملا أن يكون بمعنى احفظنا ونحفظك، وارقبنا ونرقبك. من قول العرب بعضهم لبعض: رعاك الله: بمعنى حفظك الله وكلأك - ومحتملا أن يكون بمعنى: أَرْعنا سمعك، من قولهم: أرعيت سمعي إرعاء - أو راعيته - سمعي رِعاء أو مراعاة، بمعنى: فرغته لسماع كلامه، كما قال الأعشى ميمون بن قيس (?):

يُرْعِي إلى قول سادات الرجال إذا ... أبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا

يعني بقوله (يرعى)، يصغي بسمعه إليه مفرغه لذلك.

واختلفت القراءة في قوله تعالى: {لَا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة: 14]، على وجوه:

الأول: {رّاعنِا}، بغير تنوين على أنه فعل أمر من المراعاة، وهي قراءة الجمهور (?).

والثاني: {لا تَقُولُوا رَاعُونَا}، قرأ بها أبي بن كعب وزر بن حبيش والأعمش، وهي بلفظ الجمع وكذا في مصحف ابن مسعود (?)، وفيه أيضاً (أرعونا) (?).

قال ابن عطية: " وهي شاذة، ووجهها أنهم كانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم كما تخاطب الجماعة، يظهرون بذلك إكباره وهم يريدون في الباطن فاعولا من الرعونة" (?).

والثالث: وقرئ: {لا تقولوا راعنا} بالتنوين، وهي قراءة الحسن بن أبي الحسن وأبي حيوة وابن أبي ليلى وابن محيصن والأعمش، بمعنى: لا تقولوا قولا راعناً، من: الرعونة، وهي الحمق والجهل (?).

قال ابن عطية: " وهذا محمول على أن اليهود كانت تقوله فنهى الله تعالى المؤمنين عن القول المباح سد ذريعة لئلا يتطرق منه اليهود إلى المحظور، إذ المؤمنون إنما كانوا يقولون «راعنا» دون تنوين" (?).

قال الطبري: " وهذه قراءة [أي بالتنوين] لقراء المسلمين مخالفة، فغير جائز لأحد القراءة بها لشذوذها وخروجها من قراءة المتقدمين والمتأخرين، وخلافِها ما جاءت به الحجة من المسلمين" (?).

قوله تعالى: {وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104]، أي ولكن قولوا "انتظرنا وارتقبنا" (?).

قال أبو صخر: " أمرهم الله أن يقولوا: {انظرنا}، ليعزروا رسوله ويوقروه" (?).

قال ابن عثيمين: " يعني إذا أردتم من الرسول أن ينتظركم فلا تقولوا: {راعنا}؛ ولكن قولوا: {انظرنا}: فعل طلب؛ و"النظر" هنا بمعنى الانتظار، كما في قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} [البقرة: 210]، أي ما ينتظر هؤلاء" (?).

قال ابن عطية: أي: "انتظرنا وأمهل علينا، ويحتمل أن يكون المعنى تفقدنا من النظر، وهذه لفظة مخلصة لتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم على المعنيين، والظاهر عندي استدعاء نظر العين المقترن بتدبر الحال، وهذا هو معنى {راعِنا}، فبدلت للمؤمنين اللفظة ليزول تعلق اليهود" (?).

قال الطبري: أي: "وقولوا يا أيها المؤمنون لنبيكم صلى الله عليه وسلم: انظرنا وارقبنا، نفهم ونتبين ما تقول لنا" (?).

يقال منه: نظرت الرجل أنظره نظرة، بمعنى انتظرته ورقبته، ومنه قول الحطيئة (?):

وقد نَظَرتكمُ أَعْشاء صادرةٍ ... للخِمس، طال بها حَوْزي وتَنْساسي

ومنه قول الله عز وجل: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13]، يعني به: انتظرونا (?).

واختلف أهل التفسير في قوله تعالى: {وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104]، على وجهين:

أحدهما: أن معناه: "اسمع منا". أخرجه ابن أبي حاتم عن مجاهد وعطاء (?).

والثاني: "أفهمنا يا محمد، بيّن لنا".قاله مجاهد (?).

وقرأ الأعمش وغيره {أنظرنا}، بقطع الألف وكسر الظاء، وقرئ {أنظرونا}، بمعنى: أخرنا وأمهلنا حتى نفهم عنك ونتلقى منك (?)، كما قال الله جل ثناؤه: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [ص: 79]، أي أخرني (?).

قال الطبري: "ولا وجه لقراءة ذلك كذلك في هذا الموضع، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمروا بالدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستماع منه، وإلطاف الخطاب له، وخفض

طور بواسطة نورين ميديا © 2015