أحدهما: لأنهم لم يعملوا بما علموا، وإنما العالم العامل بعلمه، وأما إذا خالف عمله علمه، فهو في معاني الجهال، وقد يقال للفاعل الفعل بخلاف ما ينبغي أن يفعل، وإن كان بفعله عالما: لو علمت لأقصرت، كما قال كعب بن زهير المزني، وهو يصف ذئبا وغرابا تبعاه لينالا من طعامه وزاده (?):
إذ إذا حضراني قلت: لو تعلمانه! ! ... ألم تعلما أني من الزاد مرمل
فأخبر أنه قال لهما: " لو تعلمانه "، فنفى عنهما العلم، ثم استخبرهما فقال: ألم تعلما؟ " (?).
قال الزجاج: " لو كان علمهم ينفعهم لسُمُّوا عالمين، ولَكِنَّ عِلْمَهُم نبذوه وراء ظهورهم، فقيل لهم {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي ليس يوفون العلم حقه، لأنَّ العالِمَ، إِذا ترك العَمَلَ بِعِلْمِه قيل له لست بعالم" (?).
وهذا تأويل وإن كان له وَجْه، إلا إنه "خلاف الظاهر المفهوم بنفس الخطاب، أعني بقوله: {ولقد علموا} وقوله: {لو كانوا يعلمون}، وإنما هو استخراج، وتأويل القرآن على المفهوم الظاهر الخطاب دون الخفي الباطن منه، حتى تأتي دلالة - من الوجه الذي يجب التسليم له - بمعنىً خلافَ دليله الظاهر المتعارف في أهل اللسان الذين بلسانهم نزل القرآن أولى" (?).
والثاني: لأنهم علموا أن الآخرة يخسرها من آثر السحر، ثم دخلوا فيه وآثروه طمعًا في عوض يصير إليهم من الدنيا، فقال الله عز وجل: {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أن الذي قصدوه وآثروه لا يتم لهم من جهته ما يؤمِّلُون؛ لأن الدنيا تنقطع عنهم بالموت، ثم يقدمون على الآخرة التي لا حظ لهم فيها (?).
الفوائد:
1 من فوائد الآية: أن اليهود أخذوا السحر عن الشياطين؛ لقوله تعالى: {واتبعوا ما تتلو الشياطين}؛ ويدل على هذا أن أحدهم. وهو لبيد بن الأعصم. سحر النبي صلى الله عليه وسلم (?).
2. ومنها: أن السحر من أعمال الشياطين؛ لقوله تعالى: {ما تتلو الشياطين] ..
3 ومنها: أن الشياطين كانوا يأتون السحر على عهد سليمان مع قوة سلطانه عليهم؛ لقوله تعالى: {ما تتلو الشياطين على ملك سليمان} ..
4 ومنها: أن سليمان لا يقر ذلك؛ لقوله تعالى: {وما كفر سليمان}؛ إذ لو أقرهم على ذلك. وحاشاه. لكان مُقراً لهم على كفرهم ..
5 ومنها: أن تعلم السحر، وتعليمه كفر؛ وظاهر الآية أنه كفر أكبر مخرج عن الملة؛ لقوله تعالى: {ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر}، وقوله تعالى: {وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر}؛ وهذا فيما إذا كان السحر عن طريق الشياطين؛ أما إذا كان عن طريق الأدوية، والأعشاب، ونحوها ففيه خلاف بين العلماء ..
واختلف العلماء. رحمهم الله. هل تقبل توبته، أو لا؟ والراجح أنها تقبل فيما بينه وبين الله عز وجل؛ أما قتله فيرجع فيه إلى القواعد الشرعية، وما يقتضيه اجتهاد الحاكم ..
6 ومن فوائد الآية: أن الله تعالى قد ييسر أسباب المعصية فتنةً للناس. أي ابتلاءً.، وامتحاناً؛ لقوله تعالى: {وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة}؛ فإياك إياك إذا تيسرت لك أسباب المعصية أن تفعلها؛ واذكر قصة بني إسرائيل حين حُرِّم عليهم الصيد يوم السبت. أعني صيد البحر.؛ فلم يصبروا حتى تحيلوا على صيدها يوم السبت؛ فقال لهم الله تعالى: {كونوا قردة خاسئين}