والثاني: سميت به، لأن الله تعالى لما أراد أن يخالف بين ألسنة بني آدم بعث ريحا فحشرتهم من الآفاق إلى بابل، فبلبل الله ألسنتهم بها، ثم فرقتهم تلك الريح في البلاد (?).
والبلبلة: التفريق (?)، قال معناه الخليل.
قال أبو عمر بن عبدالبر: "من أخصر ما قيل في البلبلة وأحسنه ما رواه داود بن أبي هند عن علباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس أن نوحا عليه السلام لما هبط إلى أسفل الجودي ابتنى قرية وسماها ثمانين، فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة، إحداها اللسان العربي، وكان لا يفهم بعضهم عن بعض" (?).
قوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ}، أي: "وما يعلم الملكان أحدا من الناس الذي أنزل عليهما من التفريق بين المرء وزوجه، حتى يقولا له: إنما نحن بلاء وفتنة لبني آدم، فلا تكفر بربك" (?).
قال الصابوني: " أي إن الملَكَيْن لا يعلمان أحداً من الناس السحر حتى يبذلا له النصيحة ويقولا إِن هذا الذي نصفه لك إِنما هو امتحان من الله وابتلاء، فلا تستعمله للإِضرار ولا تكفر بسببه، فمن تعلمه ليدفع ضرره عن الناس فقد نجا، ومن تعلمه ليلحق ضرره بالناس فقد هلك وضل" (?).
قال البيضاوي: " ما يعلمان أحداً حتى ينصحاه ويقولا له إنما نحن ابتلاء من الله، فمن تعلم منا وعمل به كفر، ومن تعلم وتوقى عمله ثبت على الإيمان، فلا تكفر باعتقاد جوازه والعمل به، وفيه دليل على أن تعلم السحر وما لا يجوز اتباعه غير محظور، وإنما المنع من اتباعه والعمل به" (?).
قال ابن عثيمين: أي نحن" اختبار للناس؛ ليتبين من يريد السحر ممن لا يريده، فلا تكفر بتعلم السحر" (?).
قال الزمخشري: " والذي أنزل عليهما هو علم السحر ابتلاء من اللَّه للناس. من تعلمه منهم وعمل به كان كافراً، ومن تجنبه أو تعلمه لا ليعمل به ولكن ليتوقاه ولئلا يغتر به كان مؤمنا" (?)، كما قال أبو فراس (?):
عَرَفْتُ الشَّرَّ لَا لِلشَّرِّ لكِنْ لِتَوَقِّيهِ ... وَمَنْ لَمْيَعْرِفِ الشّرَّ. منَ الناسِ يقعْ فيهِ
أى عرفته لأجل التحفظ منه.
قال الحسن: " نعم أنزل الملكين بالسحر ليعلموا الناس البلاء الذي أراد الله أن يبتلي به الناس، فأخذ عليهما الميثاق أن لا يعلمان أحدا حتى يقولا {إنما نحن فتنة فلا تكفر}. وهما يفعلان لا يعلمان أحدا حتى يقولا: {إنما نحن فتنة فلا تكفر} " (?). وروي عن قتادة (?) مثله.
وقال السعدي: " أي: لا تتعلم السحر فإنه كفر، فينهيانه عن السحر، ويخبرانه عن مرتبته، فتعليم الشياطين للسحر على وجه التدليس والإضلال، ونسبته وترويجه إلى من برأه الله منه وهو سليمان عليه السلام، وتعليم الملكين امتحانا مع نصحهما لئلا يكون لهم حجة.
فهؤلاء اليهود يتبعون السحر الذي تعلمه الشياطين، والسحر الذي يعلمه الملكان، فتركوا علم الأنبياء والمرسلين وأقبلوا على علم الشياطين، وكل يصبو إلى ما يناسبه" (?).