والثاني: أن المراد به المباهلة، أمروا أن يتمنوه على وجه الدعاء على الفريق الكاذب منهما، فما دعوا لعلمهم بكذبهم. روي ذلك عن ابن عباس (?). ورجّحه ابن كثير.
ورجح هذا ابن كثير؛ وضعف الأول بأنه لو كان المراد: {تمنوا}، حصول الموت لكانوا يحتجون أيضاً علينا نحن، ويقولون: أنتم أيضاً إن كنتم تقولون: إن الدار الآخرة لكم فتمنوا الموت؛ لأن تحديكم إيانا بذلك ليس بأولى من تحدينا إياكم به؛ لأنكم أنتم أيضاً تقولون: إن الدار الآخرة لكم، وأن اليهود بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم في النار؛ فتمنوا الموت أنتم أيضاً (?).
وأجاب شيخنا ابن عثيمين على هذا الإشكال، فقال: " والجواب عن ذلك أنا لم ندع أن الدار الآخرة خالصة لنا من دون الناس؛ بل نؤمن بأن الدار الآخرة لكل من آمن وعمل صالحاً سواء كان من هذه الأمة أم من غيرها؛ وهذا المعنى الذي نحا إليه ابن كثير. رحمه الله. مخالف لظاهر السياق؛ فلا يعوَّل عليه؛ وقد عرفت الانفكاك منه" (?).
والراجح هو القول الأول، لأنه يدلّ عليه ظاهر الآية، وهو الأقرب إلى موافقة اللفظ، وبه قال جماعة من أهل التفسير. والله أعلم.
قال الطبري: " فامتنعت اليهود من إجابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، لعلمها أنها تمنت الموت هلكت، فذهبت دنياها، وصارت إلى خزي الأبد في آخرتها. كما امتنع فريق النصارى - الذين جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في عيسى، إذْ دعوا إلى المباهلة - من المباهلة، فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا، ولرأوا مقاعدهم من النار. ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا" (?) ... فانكشف - لمن كان مشكلا عليه أمر اليهود يومئذ - كذبهم وبهتهم وبغيهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وظهرت حجة رسول الله وحجة أصحابه عليهم، ولم تزل والحمد لله ظاهرة عليهم وعلى غيرهم من سائر أهل الملل" (?).
الفوائد:
1 من فوائد الآيات: تكذيب اليهود الذين قالوا: "لنا الآخرة، ولكم الدنيا، لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة"؛ ووجهه: أن الله تعالى قال لهم: {فتمنوا الموت}، وقد قال تعالى: {ولن يتمنوه أبداً بما قدمت أيديهم.