قال المراغي: " أي يقتل بعضكم بعضا كما كان يفعل من قبلكم، مع أنكم معترفون بأن الميثاق أخذ عليكم كما أخذ عليهم" (?).
قال الصابوني: "أي ثم نقضتم أيضاً الميثاق يا معشر اليهود بعد إقراركم به، فقتلتم إِخوانكم في الدين، وارتكبتم ما نهيتم عنه من القتل" (?).
وروي عن السدي أنه قال: "كانت قريظة حلفاء الأوس، وكانت النضير حلفاء الخزرج، فكانوا يقتتلون في حرب سمير فتقاتل بنو قريظة مع حلفائها. النضير وحلفائهم. وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها ويغلبون فيخربون ديارهم ويخرجونهم منها فإذا أسر رجل من الفريقين ليهما جمعوا له حتى يفدوه فتعيرهم العرب بذلك، ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم، قالوا: أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم، قالوا: إنا نستحي أن يستدل بحلفائنا. فذلك حين عيرهم الله فقال: ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم" (?).
قال ابن عطية: " {هؤُلاءِ} دالة على أن المخاطبة للحاضرين لا تحتمل ردا إلى الأسلاف" (?). وكذا قاله الواحدي (?).
قال ابن عثيمين: " والخطاب لمن كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وإنما وجه إليهم؛ لأنهم من الأمة التي فعلت ذلك، ورضوا به" (?).
وقوله تعالى {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ} [البقرة: 85]، يحتمل وجهين (?):
الأول: أن يكون أريد به: ثم أنتم يا هؤلاء، فترك (يا)، استغناء بدلالة الكلام عليه، كما قال: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} [يوسف: 29]، أي: يا يوسف أعرض عن هذا. ااختاره الثعلبي (?).
والثاني: أن يكون معناه: ثم أنتم قوم تقتلون أنفسكم، فيرجع إلى الخبر عن (أنتم). وقد اعترض بينهم وبين الخبر عنهم بـ {هؤلاء}، كما تقول العرب: أنا ذا أقوم، وأنا هذا أجلس، وإذْ قيل: أنا هذا أجلس، كان صحيحا جائزا كذلك: أنت ذاك تقوم.
قال الإمام الطبري: "وقد زعم بعض البصريين أن قوله {هؤلاء} في قوله: {ثم أنتم هؤلاء}، تنبيه وتوكيد لـ {أنتم}، . وزعم أن {أنتم} وإن كانت كناية أسماء جماع المخاطبين، فإنما جاز أن يؤكدوا بـ {هؤلاء} و (أولاء)، لأنها كناية عن المخاطبين، كما قال خفاف بن ندبة (?):
أقولُ له، والرُّمحُ يأطِرُ مَتْنَهُ: ... تأمَّل خُفافًا، إنني أنا ذلِكَا
يريد: أنا هذا، وكما قال جل ثناؤه: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس: 22].
وقد اختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الآية، نحو اختلافهم فيمن عَني بقوله: {وأنتم تشهدون {(?):
الأول: أن الآية خطاب لقريظة والنضير وبني قينقاع، وذلك أن النضير وقريظة حالفت الأوس، وبني قينقاع حالفت الخزرج، فكانوا إذا وقعت الحرب بين بني قيلة ذهبت كل طائفة من بني إسرائيل مع أحلافها فقتل بعضهم بعضا وأخرج بعضهم بعضا من ديارهم، وكانوا مع ذلك يفدي بعضهم أسرى بعض اتباعا لحكم التوراة وهم قد خالفوها بالقتال والإخراج (?). قاله ابن عباس (?)، وروي عن السدي (?)، وابن زيد نحو ذلك (?).
قال ابن إسحاق: "ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج - فيما بلغني - نزلت هذه القصة" (?).
والثاني: قال أبو العالية: "كان في بني إسرائيل: إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم. وقد أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم" (?).
وقوله {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ}، قراءة العامّة بالتخفيف، من القتل، وقرأ الحسن: {تُقَتِّلُونَ}، بالتثقيل من التقتيل (?).
قوله تعالى: {وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة: 85]، "أي كما طردتموهم من ديارهم من غير التفات إِلى العهد الوثيق" (?).
روي عن ابن عباس: {وتخرجون فريقا منكم من ديارهم}، قال: يخرجونهم من ديارهم معهم" (?). وروي عن الحسن، وقتادة نحو ذلك (?).
قوله تعالى: {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بالإثم وَالْعُدْوَانِ} [البقرة: 85]، أي تتعاونون عليهم بالمعصية والظلم" (?).
قال الواحدي: " أي: تعاونون على أهل ملتكم بالمعصية والظلم" (?).
قال ابن عثيمين: أي بالمعصية والإعتداء على الغير بغير حق، فكل عدوان معصية؛ وليست كل معصية عدواناً. إلا على النفس: فالرجل الذي يشرب الخمر عاصٍ، وآثم؛ والرجل الذي يقتل معصوماً هذا آثم، ومعتد؛ والذي يخرجه من بلده آثم، ومعتد؛ ولهذا قال تعالى: {تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان}؛ فهؤلاء بعد ما أخذ عليهم الميثاق مع الإقرار، والشهادة لم يقوموا به؛ أخرجوا أنفسهم من ديارهم، وتظاهروا عليهم بالإثم، والعدوان" (?).
قال ابن عباس: " كانوا إذا كان بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه حتى يتسافكوا دماءهم بينهم" (?).
وقوله تعالى: {تَظَاهَرُونَ}] البقرة: 85]، أي: تتعاونون، مشتق من الظهر، لأن بعضهم يقوي بعضا فيكون له كالظهر (?)، ومنه قول الشاعر (?):
تظاهرتم أستاه بيت تجمعت ... على واحد لا زلتم قرن واحد