والثالث: وقيل: المراد القصاص، أي لا يقتل أحد فيقتل قصاصا، فكأنه سفك دمه. أجازه الطبري (?). وقال ابن عطية: " وهذا تأويل فيه تكلف (?)،
والرابع: لا تتعرضوا لمقاتلة من يقتلكم فتكونوا قد قتلتم أنفسكم.
والخامس: لا تسفكون دماءكم من قوامكم في مصالح الدنيا بهم فتكونون مهلكين لأنفسكم.
والصحيح "إنما كان الأمر أن الله تعالى قد أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقا أن لا يقتل بعضهم بعضا ولا ينفيه ولا يسترقه ولا يدعه يسترق إلى غير ذلك من الطاعات" (?). والله تعالى أعلم.
قوله تعالى: {وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [البقرة: 84]، أي " ولا يخرج بعضكم بعضا من داره" (?).
قال الواحدي: " أي: لا يخرج بَعضكُم بعضًا مِن دَاره ويغلبه عَليها" (?).
قال ابن عطية: أي: " ولا ينفي بعضكم بعضا بالفتنة والبغي" (?).
وقد ذكروا في قوله تعالى: {وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ} [البقرة: 84]، ثلاثة أوجه من التفسير:
الأول: لا تفعلوا ما تستحقون بسببه أن تخرجوا من دياركم.
الثاني: المراد النهي عن إخراج بعضهم بعضا من ديارهم لأن ذلك مما يعظم فيه المحنة والشدة حتى يقرب من الهلاك (?). وهذا قول أبي العالية (?). وروي عن الحسن (?) والسدي (?) ومقاتل بن حيان (?) نحو ذلك.
والثالث: ولا تسبوا من جاوركم فتلجئوهم إلى الخروج بسوء جواركم. قاله الثعلبي (?).
قال ابن عثيمين: "ولا شك أن الإخراج من الوطن شاق على النفوس؛ وربما يكون أشق من القتل" (?).
قوله تعالى: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ} [البقرة: 84]، " أي: قبلتم ذلك وأقررتم به" (?).
قال أبو العالية: "يقول: : أقررتم بهذا الميثاق" (?). وروي عن الربيع مثله (?).
قال الزجاج: " أي اعترفتم بأن هذا أخذ عليكم في العهد وأخذ على آبائكم" (?).
قال الثعلبي: اي: "بهذا العهد إنّه حقّ" (?).
قال الزمخشري: أي" بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه" (?).
قال ابن عطية: " أي خلفا بعد سلف أن هذا الميثاق أخذ عليكم والتزمتموه فيتجه في هذه اللفظة أن تكون من الإقرار الذي هو ضد الجحد وتتعدى بالباء، وأن تكون من الإقرار الذي هو إبقاء الأمر على حاله، أي أقررتم هذا الميثاق ملتزما" (?).
قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة: 84]، أي: " وأنتم أيها الباقون المخاطبون تشهدون أن هذا حق" (?).
قال الثعلبي: أي: تشهدون "اليوم على ذلك يا معشر اليهود" (?).
واختلف في الخطاب في قوله تعالى {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة: 84]، على وجهين:
الأول: أنه خطاب لليهود المعاصرين للرسول-صلى الله عليه وسلم-، والمعنى "وأنتم شهداء أي بينة أن هذا الميثاق أخذ على أسلافكم فمن بعدهم" (?). وهذا مذهب ابن عباس (?).
والثاني: أنه خبر من الله جل ثناؤه عن أوائلهم، أخرجه بذلك عنهم مُخرج المخاطبة. قاله أبو العالية (?).
والراجح أنه خبر عن أسلافهم، ويدخل فيه المخاطبون منهم، "الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان قوله: {وإذ أخذنا ميثاقكم} خبرا عن أسلافهم، وإن كان خطابا للذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم" (?). وهذا اختيار الطبري (?).
وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة: 84]، وجوها (?):
الأول: أي: ثم أقررتم بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه وأنتم تشهدون عليها كقولك فلان مقر على نفسه بكذا أي شاهد عليها. قاله الزمخشري (?). وقواه القرطبي (?).
والثاني: اعترفتم بقبوله وشهد بعضكم على بعض بذلك، لأنه كان شائعا فيما بينهم مشهورا.
والثالث: وأنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق.
والرابع: الإقرار الذي هو الرضاء بالأمر والصبر عليه كأن يقال: فلان لا يقر على الضيم، فيكون المعنى أنه تعالى يأمركم بذلك ورضيتم به فأقمتم عليه وشهدتم بوجوبه وصحته.
قال الرازي: "وإن قيل: لم قال: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} والمعنى واحد، قلنا فيه ثلاثة أقوال: الأول: أقررتم يعني أسلافكم وأنتم تشهدون الآن يعني على إقرارهم، الثاني: أقررتم في وقت الميثاق الذي مضى وأنتم بعد ذلك تشهدون، الثالث: أنه للتأكيد" (?).
الفوائد:
1. من فوائد الآية: أن بني إسرائيل أُخذ عليهم تحريم قتال بعضهم بعضاً؛ لقوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم}.
2 ومنها: تحريم إخراج بعضهم بعضاً من ديارهم.
3 ومنها: أن الأمة كالنفس الواحدة؛ لقوله تعالى: {لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم}.
4 ومنها: الأسلوب البليغ في قوله تعالى: {لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم}؛ وذلك أن مثل هذا التعبير فيه الحث البليغ على اجتناب ما نُهي عنه، وكأن الذي اعتدى على غيره قد اعتدى على نفسه
5 ومنها: أن بني إسرائيل قد أقروا على أنفسهم بهذا الميثاق، وشهد بعضهم على بعض؛ لقوله تعالى: {ثم أقررتم وأنتم تشهدون.}.
القرآن