والثالث: أنهم سألوه أن ينزِّل على طائفة من رؤسائهم كتاباً من السماء بتصديقه، وهذا قول ابن جريج (?).
والصواب من القول أن يقال: "إن أهل التوراة سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه أن ينزل عليهم كتابًا من السماء، آيةً معجزةً جميعَ الخلق عن أن يأتوا بمثلها، شاهدةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق، آمرة لهم باتباعه، وجائز أن يكون الذي سألوه من ذلك كتابًا مكتوبًا ينزل عليهم من السماء إلى جماعتهم وجائز أن يكون ذلك كتبًا إلى أشخاص بأعينهم. بل الذي هو أولى بظاهر التلاوة، أن تكون مسألتهم إياه ذلك كانت مسألة لتنزيل الكتاب الواحد إلى جماعتهم، لذكر الله تعالى في خبره عنهم «الكتاب» بلفظ الواحد بقوله: {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء}، ولم يقل «كتبًا» " (?).
قوله تعالى: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، أي: " فلا تعجب -أيها الرسول- فقد سأل أسلافهم موسى -عليه السلام- ما هو أعظم: سألوه أن يريهم الله علانيةً" (?).
قال الزجاج: " أي فقد سألوا موسى بعد أن جاءهم بالآيات، فقالوا: {أرنا الله جهرة} " (?).
عن قتادة: " {فقد سألوا موسى أكبر من ذلك} [النساء: 153]، قولهم أرنا الله جهرة" (?).
وعن قتادة أيضا في قوله: " {جهرة} [النساء: 153]، أي: عيانا" (?). وروي عن الربيع بن أنس مثل ذلك (?).
قال ابن عباس: "إنما قالوا جهرةً: {أرنا الله}، قال: هو مقدّم ومؤخر" (?).
وعن ابن عباس أيضا , "أنه قال في قول الله: {جهرة} [النساء: 153] أي: علانية" (?).
قال الطبري: " يعني: فقد سأل أسلافُ هؤلاء اليهود وأوائلهم موسى عليه السلام، أعظم مما سألوك من تنزيل كتاب عليهم من السماء، فقالوا له: " أرنا الله جهرة "، أي: عِيانًا نعاينه وننظر إليه، [وهذا] توبيخ من الله جل ثناؤه سائلي الكتابَ الذي سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزله عليهم من السماء، في مسألتهم إياه ذلك وتقريعٌ منه لهم. يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: يا محمد، لا يعظُمَنَّ عليك مسألتهم ذلك فإنهم من جهلهم بالله وجراءَتهم عليه واغترارهم بحلمه، لو أنزلت عليهم الكتاب الذي سألوك أن تنزله عليهم، لخالفوا أمر الله كما خالفوه بعد إحياء الله أوائلهم من صعقتهم، فعبدوا العجل واتخذوه إلهًا يعبدونه من دون خالقهم وبارئهم الذي أرَاهم من قدرته وعظيم سلطانه ما أراهم، لأنهم لن يعدُوا أن يكونوا كأوائلهم وأسلافهم" (?).
ويحتمل قوله تعالى: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، وجهين (?):
أحدهما: أن الله تعالى بيَّن بذلك أن سؤالهم للإعْنَاتِ لا للاستبصار كما أنهم سألوا موسى أن يريهم الله جهرة، ثم كفروا بعبادة العجل.
والثاني: أنه بيَّن بذلك أنهم سألوا ما ليس لهم، كما أنهم سألوا موسى من ذلك ما ليس لهم.
وفي قوله تعالى: {قَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153]، قولان:
أحدهما: أنهم سألوه رؤيته جهرة، أي معاينة، وهذا اختيار الزجاج (?).
والمعنى: "أرنا رؤية بينة منكشفة ظاهرة، لأن من علم الله عز وجل فقد زاد علما، ولكن سألوه رؤية يدركونها بأبصارهم، ودليل هذا القول قوله عز وجل: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة: 55] " (?).