يقول ابن عاشور: " وَإِذا كَانَ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي أَوَّلِ عَهْدٍ بِإِقَامَةِ الدولة الْإِسْلَامِيَّةِ وَاسْتِقْلَالِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ بِمَدِينَتِهِمْ كَانَ مِنْ أَوَّلِ أَغْرَاضِ هَذِهِ السُّورَةِ تَصْفِيَةُ هذه الدولة الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْ أَنْ تَخْتَلِطَ بِعَنَاصِرَ مُفْسِدَةٍ فاسدة حاسدة. تفسد مَا أَقَامَ اللَّهُ لَهَا مِنَ الصَّلَاحِ الذي تسعى فيه لِتَكْوِينِ الْمَدِينَةِ الْفَاضِلَةِ النَّقِيَّةِ مِنْ شَوَائِبِ الدَّجَلِ وَالدَّخَلِ" (?)، ولعل هذا يدلك دلالة صريحة على اهمية ومكانة سورة البقرة ما يجعلها السورة الثانية بعد الفاتحة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{الم (1)} [البقرة: 1]

التفسير:

الله أعلم بمراده، والأسلم فيها السكوت عن التعرض لمعناها دون سند شرعي، واليقين بأن الله أنزلها لحكمة قد لا نعلمها.

وهذه الحروف التي في بداية السور، فيها إشارة إلى إعجاز القرآن الكريم، فقد تَحَدَّى اللهُ به المشركين، فعجزوا عن مُعارَضَتِه، مع أنه مُرَكَّب من هذه الحروف التي تتكون منها لُغَتُهُم، فدَلَّ عَجْزُ العرب عن الإتيان بمثله - مع أنهم أفصَحُ الناس - على أنّ القرآنَ وَحْيٌ من عند الله.

ولقد ذهب المفسرون مذاهب شتى في تفسير الأحرف المقطعة في السور الفواتح ولم يجزموا بوجه من الوجوه، إذا لم يصح في تفسيرها شيء عن رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -).

وتجدر الإشارة بأن هناك محل متفق عليه بين أهل العلم في هذه الحروف، وهو أن أهل الإسلام أجمعوا على أن لهذه الحروف معنى، وأنها ذُكِرت لحكمة. يقرر هذا ويوضحه ثلاثة أمور (?):

الأمر الأول: - أن الله أمرنا بتدبر كتابه وتفهمه دون استثناء، فدخلت الحروف المقطعة في هذا، قال الله - تعالى -: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وقال - تعالى -: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]، وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 68] (?).

الأمر الثاني: أن الله تعالى قد تحدى عباده من الإنس والجن بأن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن، وأقصر سورة ثلاث آيات، وقراء الكوفة يعدون الحروف المقطعة آية في كل سورة، و: {حم (1) عسق} [الشورى: 1، 2] آيتان (?).

فلو أتوا بآيتين مكونتين من حروف مقطعة، ثم أتوا بآية من كلام آخر لأدوا ما تحداهم الله به، فلو لم يكن لها معنى لقالوا: كيف يتحدانا بكلام لا نفهمه؟ (?).

الأمر الثالث: أن الله تعالى حكيم، وهذا كلامه، فهو كلام حكيم، نزل من حكيم، : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41، 42]، فإذا كان قائل هذا القرآن حكيماً حميداً، كيف يوجد في كلامه ما لا معنى له، ولم يُذْكَر لحكمة؟ ، : {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1].

طور بواسطة نورين ميديا © 2015