وعن أبي أيوب بُشَيْر بن كعب: أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغر" (?).
قال إبراهيم بن ميمون، أخبرني رجل من بلحارث يقال له أيوب قال: سمعت عبد الله بن عمرو: "من تاب قبل موته بعام تيب عليه، ومن تاب قبل موته بشهر تيب عليه، ومن تاب قبل موته بجمعة تيب عليه، ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه، فقلت له: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب}، فقال: إنما أحدثك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم" (?).
وقال محمد بن عبد الجبار: "يقال للتائب المخلص في توبته ولو بمقدار ساعة من النهار أو بمقدار نفس واحد قبل موته: ما أسرع ما جئت" (?).
قال الراغب: " وقال بعضهم: نبه بقوله: (ثم يتوبون من قريب) على لطيفة، وهي أن الإنسان إذا ارتكب ذنبا صدأ قلبه، فإن أقلع زال صدأه، وإن استمر رين على قلبه، وإن لم ينزع طبع عليه وأقفل، ثم يتعذر عليه الرجوع، وعلى ذلك نبه بقوله في قصة المنافقين {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} [التوبة: 83]، فإذا كان كذلك فحق لمن بدرت منه بادرة أن يتداركها قبل أن تصير الشهوة مستولية عليه، فتأبى الطباع على الناقل" (?).
قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [النساء: 17]، أي: "فأولئك يتقبل الله توبتهم" (?).
قال الواحدي: أي: " يعود عليهم بالرحمة" (?).
قال الطبري: أي: " فهؤلاء الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب يتوب الله عليهم، دون من لم يتب حتى غُلب على عقله، وغمرته حشرجة ميتته، فقال وهو لا يفقه ما يقول: إني تبت الآن، خداعًا لربه، ونفاقًا في دينه، ومعنى قوله: يتوب الله عليهم، يرزقهم إنابة إلى طاعته، ويتقبل منهم أوبتهم إليه وتوبتهم التي أحدثوها من ذنوبهم" (?).
قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17]، أي: " وكان الله عليمًا بخلقه، حكيمًا في تدبيره وتقديره" (?).
قال الطبري: أي: " ولم يزل الله جل ثناؤه عليما بالناس من عباده المنيبين إليه بالطاعة، بعد إدبارهم عنه، المقبلين إليه بعد التولية، وبغير ذلك من أمور خلقه حكيمًا، في توبته على من تاب منهم من معصيته، وفي غير ذلك من تدبيره وتقديره، ولا يدخل أفعاله خلل، ولا يُخالطه خطأ ولا زلل" (?).
قال الواحدي: " علم ما في قلوب المؤمنين من التصديق فحكم لهم بالتوبة قبل الموت بقدر فُواق ناقة" (?).
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "أتاه رجل فقال: يا أبا عباس: سمعت الله يقول: وكان الله كأنه شيء كان، فقال ابن عباس: أما قوله: وكان الله فإنه لم يزل ولا يزال، وهو الأول والآخر، والظاهر والباطن" (?).
وعن أبي مالك قوله: {وكان الله}، فهو كذلك" (?).
قال محمد بن إسحاق: " {عليما}، أي: عليم بما تخفون، {الحكيم}، في عذره وحجته إلى عباده" (?).
قال التستري: " التائب يتقي المعصية ويلزم الطاعة، والمطيع يتقي الرياء ويلزم الذكر، والذاكر يتقي العجب ويلزم نفسه التقصير، وحكي: «أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام أن أنين المذنبين أحب إلي من صراخ الصديقين» (?) " (?).
وفي نسخ قوله تعالى: : {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء: 17]، قولان:
أحدهما: أنها عامة محكمة، وقد احتج من قال إنها محكمة عامة غير منسوخة بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» (?)،
قال مكي: "فالغرغرة عند حضور الموت ومعاينة الرسل لقبض الروح فعند ذلك لا تقبل التوبة" (?).
والثاني: أنها منسوخة، وفيه وجهان:
أحدهما: أن هذه الآية منسوخة بالتي بعدها، وهي قوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18].
قالوا: فقد احتجز التوبة في هذه الآية على أهل المعصية، فقال عز وجل: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 18].
قالوا ثم نسخت في أهل الشرك، أي: نسختها هذه الآية، وبقيت محكمة في أهل الإيمان.
والقول الثاني: أنه نسخت هذه الآية، وهي قوله عز وجل: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات} بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116]، فحرم الله تعالى مغفرته على من مات وهو مشرك، - ورد أهل التوحيد إلى مشيئته -.
روي عن ابن عباس: " {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت} [النساء: 18] الآية، ثم أنزل بعد ذلك: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] «فحرم الله عز وجل المغفرة على من مات وهو كافر وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته، فلم يؤيسهم من المغفرة» (?).
وروي عن ابن عباس أيضا "في قول الله عز وجل: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} [النساء: 18] قال: «هم أهل الشرك» (?).
وذكر النسخ هبة الله في ناسخه (?)، ومكي بن أبي طالب في ناسخه، ثم قال: " "وهذا قول ينسب إلى ابن عباس" (?).
قال السخاوي: "وهذا كله تخليط من قائله، ولا نسخ في هذه الآيات؛ لأنها أخبار جاءت تبين بعضها" (?).
قال ابن الجوزي: "إنه من أسلم عن كفر قبل معاينة ملك الموت قَبِل إسلامه، وهذا أمر ثابت محكم، وقد زعم بعض من لا فهم له: أن هذا الأمر أقر على هذا في حق أرباب المعاصي من المسلمين ونسخ حكمه في حق الكفار بقوله: {وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء: 18]، وهذا ليس بشيء، فإن حكم الفريقين واحد" (?).
والراجح أنها محكمة عامة، وهذا الذي استدلوا به على إحكام الآية صحيح رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم، قال الهيثمي عن هذا الحديث: "رجاله رجال الصحيح غير عبد الرحمن وهو ثقة" (?).