والرابع: أن معنى {رابطوا}، أي: رابطوا على الصلوات بانتظارها واحدة بعد واحدة. قاله أبو هريرة-رضي الله عنه- (?)، ونسبه الطبري إلى أبي سلمة بن عبدالرحمن (?)، وروي عن يحيى بن سعيد بن المسيب نحو ذلك (?).
روي عن عبد الرحمان بن يعقوب، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء عند المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط" (?).
والراجح من الأقوال السابقة-والله أعلم-، أن معنى {اصبروا}، أي: " اصبروا على دينكم وطاعة ربكم، فأمر الله عزّ وجل بالصبر على جميع معاني طاعته فيما أمر ونهى، صعبها وشديدها، وسهلها وخفيفها، لأن الله لم يخصص من معاني الصبر على الدين والطاعة شيئًا، فيجوز إخراجه من ظاهر التنزيل.
وقوله: {وصابروا}، يعني: وصابروا أعداءكم من المشركين، لأن وزن الفعل من "المفاعلة"، وهي في كلام العرب تفيد المشاركة بين اثنين فصاعدا، ولا تكون من واحد إلا قليلا في أحرف معدودة، وبالتالي فإن الله أمر المؤمنون أن يصابروا غيرهم من أعدائهم، حتى يظفرهم الله بهم، ويعلي كلمته، ويخزي أعداءهم، وأن لا يكون عدوُّهم أصبر منهم.
وأما قوله تعالى: {ورابطوا}، أي: ورابطوا أعداءكم وأعداء دينكم من أهل الشرك، في سبيل الله، لأن أصل "الرباط "، ارتباط الخيل للعدوّ، كما ارتبط عدوهم لهم خيلهم، ثم استعمل ذلك في كل مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه من أراده من أعدائهم بسوء، ويحمي عنهم من بينه وبينهم ممن بغاهم بشر، كان ذا خيل قد ارتبطها، أو ذا رَجْلة لا مركب له، فهذا هو المعنى المعروف من معاني الرباط، وإنما يوجه الكلام إلى الأغلب المعروف في استعمال الناس من معانيه، دون الخفي، حتى تأتي بخلاف ذلك مما يوجب صرفه إلى الخفي من معانيه حجة يجب التسليم لها من كتاب، أو خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إجماع من أهل التأويل (?).
قال ابن عطية: " والقول الصحيح هو أن (الرباط) هو الملازمة في سبيل الله، أصلها من ربط الخيل، ثم سمي كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطا، فارسا كان أو راجلا، واللفظة مأخوذة من الربط، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فذلك الرباط» (?) إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله، إذ انتظار الصلاة إنما هو سبيل من السبل المنجية، والرباط اللغوي: هو الأول، وهذا كقوله: ليس الشديد بالسرعة، كقوله: ليس المسكين بهذا الطواف إلى غير ذلك من الأمثلة، والمرابط في سبيل الله عند الفقهاء: هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما، قاله ابن المواز ورواه، فأما سكان الثغور دائما بأهليهم الذين يعتمرون ويكتسبون هنالك، فهم وإن كانوا حماة فليسوا بمرابطين " (?).
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران: 200]، " أي: وخافوا الله فلا تخالفوا أمره لتفوزوا بسعادة الدارين" (?).
قال مقاتل: أي: "ولا تعصوا، ومن يفعل ذلك فقد أفلح" (?).
قال محمد بن كعب القرظي: " {واتقوا الله} فيما بيني وبينكم، {لعلكم تفلحون} غدًا إذا لقيتموني" (?).
قال الطبري: أي: " واتقوا الله، أيها المؤمنون، واحذروه أن تخالفوا أمره أو تتقدموا نهيه، لتفلحوا فتبقوا في نعيم الأبد، وتنجحوا في طلباتكم عنده" (?).
قال ابن كثير: " أي: في جميع أموركم وأحوالكم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ [بن جبل] (2) رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: «اتَّق الله حَيْثُما كُنْتَ وأتْبع السيئَة الحسنة تَمْحُها وخالق الناس بخُلق حَسَنٍ» (?). {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي: في الدنيا والآخرة" (?).
قال الزجاج: أي: " {واتقوا الله} في كل ما أمركم به، ونهاكم عنه، لتكونوا على رجاء فلاح - وإنما قيل لهم {لعلكم تفلحون}: أي لعلكم تسلمون من أعمال تبطل أعمالكم هذه، فأما المؤمنون الذين وصفهم الله جل ثناؤه فقد أفلحوا، قال الله جل وعز: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2]، إلى آخر وصف المؤمنين، فهؤلاء قد أفلحوا لا محالة وإنما يكون الترجي مع عمل يتوهم أنه بعض من العمل الصالح" (?).
قال ابن عطية: " ثم ختم الله تعالى السورة بهذه الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء، والفوز بنعيم الآخرة، فحض على الصبر على الطاعات وعن الشهوات، وأمر بالمصابرة، فقيل: معناه مصابرة الأعداء، وقوله {ورابطوا}: قال جمهور الأمة معناه: رابطوا أعداءكم الخيل، أي ارتبطوها كما يرتبطها أعداؤكم، ومنه قوله عز وجل: {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] " (?).
الفوائد:
1 - فضيلة الإيمان، وأن أهل الإيمان هم أجدر الناس بتوجيه الخطاب إليهم، لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}.
2 - أن ينبغي للإنسان أن يأتي في أسلوبه يما يحمل الإنسان على فعل ما طلب منه أو ترك ما نهي عنه، لقوله: {{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا}.
3 - الحثّ على الصبر بل الأمر بالصبر، لقوله: {اصْبِرُوا}، وهو في الحقيقة مشترك، قد يكون واجبا وهو الصبر على الواجب وترك المحرم وعلى الأقدار المؤلمة، وقد يكون الصبر مستحبا وهو الصبر على المستحبات أو على ترك المكروهات، فإن الصبر فيها أكمل وأفضل.
4 - الأمر بالمصابرة، وأن الإنسان يصابر من يضاده ويعد له، فإن العاقبة ستكون له عليه إذا صابره امتثالا لأمر الله عزّ وجل ورجاء لثوابه، وتحسبا للعاقبة الحميدة التي تكون فيها الدائرة على من ضاده.
5 - الأمر بالمرابطة، والمرابطة إن كانت على واجب فهي واجبة، وإن كانت على مستحب فهي مستحبة.
6 - الأمر بالتقوى، والتقوى واجبة، لأنها اتقاء الوقوع في المحرم إما بترك الواجب وإما بفعل المحرم.
7 - النتائج الحميدة لمن قام بأوامر الله من الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى، وهي-أي العاقبة الحميدة- الفلاح، لقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
------------------------------------------------------
انتهى المجلد السادس من التفسير بحمد الله تعالى، ويليه المجلد السابع بإذن الله تعالى وبدايته تفسير الآية (1) من سورة النساء.