قلت: أجل، لأنهم إذا وفوا بالعهود وفوا أول شيء بالعهد الأعظم، وهو ما أخذ عليهم في كتابهم من الإيمان برسول مصدق لما معهم، ولو اتقوا الله في ترك الخيانة لاتقوه في ترك الكذب على الله وتحريف كلمه.
ويجوز أن يرجع الضمير إلى الله تعالى، على أن كل من وفى بعهد الله واتقاه فإن الله يحبه، ويدخل في ذلك الإيمان وغيره من الصالحات وما وجب اتقاؤه من الكفر وأعمال السوء" (?).
قال المراغي: " أي: بلى عليكم في الأميين سبيل، وعليكم الوفاء بعقودكم المؤجلة والأمانات، فمن أقرضك مالا إلى أجل، أو باعك بثمن مؤجل أو ائتمنك على شىء وجب عليك الوفاء به، وأداء الحق له فى حينه دون حاجة إلى الإلحاف في الطلب أو إلى التقاضي، وبذلك قضت الفطرة وحتّمت الشريعة.
وفي هذا إيماء إلى أن اليهود لم يجعلوا الوفاء بالعهد حقا واجبا لذاته، بل العبرة عندهم بالمعاهد، فإن كان إسرائيليا وجب الوفاء له، ولا يجب الوفاء لغيره، والعهد ضربان:
أحدهما: عهد المرء لأخيه في العقود والأمانات كما تقدم.
والثاني: عهد الله تعالى، وهو ما يلتزم به المؤمن لربه من اتباع دينه والعمل بما شرعه على لسان رسوله.
واليهود لم يفوا بشىء منهما، إذ لو وفّوا بعهد الله لآمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم واتبعوا النور الذي أنزل معه، كما وصاهم بذلك كتابهم على لسان رسولهم موسى صلوات الله عليه" (?).
قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76]، أي: "فإن الله يحب الذين يتقونه فيخافون عقابه ويحذرون عذابه " (?).
قال أبو حيان: " وأتى بلفظ: المتقين، عاما تشريفا للتقوى دحضا عليها" (?).
قال البيضاوي: "أشْعَرَ بأن التقوى ملاك الأمر وهو يعم الوفاء وغيره من أداء الواجبات والاجتناب عن المناهي " (?).
قال المراغي: " وقد جعل الله جزاء الموفين بالعهد المتقين الإخلاف والغدر- محبته تعالى ورحمته لهم في الدنيا والآخرة، وفي هذا إيماء إلى أن الوفاء بالعهود، واتقاء الإخلاف فيها وفي سائر المعاصي والخطايا هو الذي يقرب العبد من ربه، ويجعله أهلا لمحبته. أما الانتساب إلى شعب بعينه فلا قيمة له عند الله، وفي هذا تعريض بأن أصحاب هذا الرأى من اليهود ليسوا على حظ من التقوى، وهى الدعامة الأساسية في كل دين قويم" (?).
قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-: "لا يكون الرجل من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس" (?).
وعن ميمون أبي حمزة قال: كنت جالسا عند أبي وائل، فدخل رجل يقال له أبو عفيف من أصحاب معاذ، فقال له شقيق بن سلمة: ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل؟ قال: بلى، سمعته يقول: يحبس الناس يوم القيامة في بقيع واحد فينادي مناد: أين المتقون؟ فيقومون في كنف الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر. قلت: من المتقون؟ قال: قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة فيمرون إلى الجنة" (?).
الفوائد:
1 - الثناء على الموفين بالعهد.
2 - أن الوفاء بالعهد من اسباب محبة الله.
3 - الحث على التقوى، وأن التقوى عموما سبب لمحبته.
4 - الرد على أهل التعطيل الذي انكروا محبة الله، لقوله: {والله يحب المتقين}.
القرآن