والخامس: وقيل: (الحنيفية) الإسلام. فكل من ائتم بإبراهيم في ملته فاستقام عليها، فهو (حنيف).

قال القفال: "وبالجملة فالحنيف لقب لمن دان بالإسلام كسائر ألقاب الديانات، وأصله من إبراهيم عليه السلام" (?).

والسادس: أن الحنيف: المستقيم. قاله محمد بن كعب (?)، وروي عن عيسى بن جارية (?) مثله.

السابع: أن الحنيف: الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم. قاله أبو قلابة (?).

الثامن: أن الحنيف: الذي يستقبل البيت بصلاته، ويرى أن حجه عليه إن استطاع إليه سبيلا. قاله أبو العالية (?).

التاسع: أن الحنيفية: شهادة أن لا إله إلا الله. يدخل فيها تحريم الأمهات والبنات والخالات، والعمات، وما حرم الله عز وجل، والختان. وكانت حنيفة في الشرك: كانوا أهل الشرك، وكانوا يحرمون في شركهم الأمهات والبنات والخالات والعمات، وكانوا يحجون البيت، وينسكون المناسك. قاله قتادة (?).

والصواب: أن (الحنيفية) هو الإستقامة على دين إبراهيم واتباعه على ملته.

قال الثعلبي: "فالحنيف الذي يوحد ويحج ويضحي ويختن ويستقبل القبلة وهو أسهل الأديان وأحبها إلى الله وأهله أكرم الخلق على الله" (?).

قال الإمام الطبري: "لو كانت الحنيفية حج البيت، لوجب أن يكون الذين كانوا يحجونه في الجاهلية من أهل الشرك كانوا حنفاء. وقد نفى الله أن يكون ذلك تحنفا بقوله: {ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين} [سورة آل عمران: 67]، فكذلك القول في الختان. لأن " الحنيفية " لو كانت هي الختان، لوجب أن يكون اليهود حُنفاء. وقد أخرجهم الله من ذلك بقوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [سورة آل عمران: 67].

فقد صحّ إذًا أن " الحنيفية " ليست الختانَ وحدَه، ولا حجَّ البيت وحده، ولكنه هو ما وصفنا: من الاستقامة على ملة إبراهيم، واتباعه عليها، والائتمام به فيها. فإن قال قائل: أوَ ما كان مَنْ كان من قبل إبراهيم صلى الله عليه وسلم، من الأنبياء وأتباعهم، مستقيمين على ما أمروا به من طاعة الله استقامةَ إبراهيم وأتباعه؟

قيل: بَلى. فإن قال: فكيف أضيف " الحنيفية " إلى إبراهيم وأتباعه على ملته خاصة، دون سائر الأنبياء قبله وأتباعهم؟ قيل: إنّ كل من كان قبل إبراهيم من الأنبياء كان حنيفًا متّبعًا طاعة الله، ولكن الله تعالى ذكره لم يجعل أحدًا منهم إمامًا لمن بعده من عباده إلى قيام الساعة، كالذي فعل من ذلك بإبراهيم، فجعله إمامًا فيما بيّنه من مناسك الحج والختان، وغير ذلك من شرائع الإسلام، تعبُّدًا به أبدًا إلى قيام الساعة. وجعل ما سنّ من ذلك عَلَمًا مميّزًا بين مؤمني عباده وكفارهم، والمطيعِ منهم له والعاصي. فسمِّي الحنيفُ من الناس " حنيفًا " باتباعه ملته، واستقامته على هديه ومنهاجه، وسُمِّي الضالُّ من ملته بسائر أسماء الملل، فقيل: " يهودي، ونصرانيّ، ومجوسيّ "، وغير ذلك من صنوف الملل" (?).

قوله تعالى: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67]، "أي: كان مسلماً ولم يكن مشركاً" (?).

قال الطبري: "وهذا تكذيبٌ من الله عز وجل دعوَى الذين جادلوا في إبراهيم وملته من اليهود والنصارى، وادَّعوا أنه كان على ملتهم وتبرئة لهم منه، وأنهم لدينه مخالفون وقضاءٌ منه عز وجل لأهل الإسلام ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم أنهم هم أهل دينه، وعلى منهاجه وشرائعه، دون سائر أهل الملل والأديان غيرهم" (?).

الفوائد:

1 - تبرئة إبراهيم-عليه الصلاة والسلام- من دين اليهود والنصارى.

2 - الثناء على إبراهيم-عليه السلام- لقوله: " {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا}، إذ وصفه بالتوحيد الخالص الذي لايشوبه أي نوع من الشرك.

3 - أنه لابد في التوحيد من شيئين: نفي وإثبات، النفي في قوله: {وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا}، والإثبات في قوله: {مُسْلِمًا}، لأن الحنيف هو المائل عن الشرك وعن كل دين يخالف الاسلام.

4 - الثناء على إبراهيم بأنه لم يكن فيه صفة من صفات المشركين، فقال: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.

القرآن

{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)} [آل عمران: 68]

التفسير:

إنَّ أحق الناس بإبراهيم وأخصهم به، الذين آمنوا به وصدقوا برسالته واتبعوه على دينه، وهذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا به. والله وليُّ المؤمنين به المتبعين شرعه.

في سبب نزول الآية أقوال:

أحدها: نقل الثعلبي (?) والواحدي عن ابن عباس: "قال رؤساء اليهود: والله يا محمد لقد علمت أنا أولى بدين إبراهيم منك ومن غيرك، وأنه كان يهوديا، وما بك إلا الحسد، فأنزل الله تعالى هذه الآية" (?).

والثاني: نقل السيوطي (?) وابن حجر عن عبد بن حميد من طريق شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم (?): "أنه لما أن خرج أصحاب رسول الله صلة الله عليه وسلم إلى النجاشي انتدب لهم عمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط -كذا قال وإنما هو عمارة بن الوليد بن المغيرة (?) - أرادوا عنتهم والبغي عليهم، فقدموا على النجاشي فأخبروه أن هؤلاء الرهط الذين قدموا عليك من أهل مكة، إنما يريدون أن يخبلوا عليك ملكك، ويفسدوا عليك أرضك، ويشتموا ربك، فأرسل إليهم، فذكر القصة مطولة، وفيها: إن الذي خاطبهم من المسلمين حمزة وعثمان بن مظعون فقال النجاشي لما سمع كلامهم: لا دهوره -أي: لا خوف- على حزب إبراهيم فقال

طور بواسطة نورين ميديا © 2015