وفي قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ} [آل عمران: 7] ثلاثة أقاويل:

أحدها: تأويل جميع المتشابه، لأن فيه ما يعلمه الناس، وفيه ما لا يعلمه إلا الله، قاله الحسن (?).

والثاني: أن تأويله يوم القيامة لما فيه من الوعد والوعيد، كما قال الله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَومَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} [الأعراف: 53] يعني يوم القيامة، قاله ابن عباس (?).

والثالث: تأويله وقت حلوله، قاله بعض المتأخرين (?).

وقرأ عبد اللَّه: "إن تأويله إلا عند اللَّه" (?).

قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7]، " أي والثابتون المتمكنون من العلم يؤمنون بالمتشابه وأنه من عند الله" (?).

قال الطبري: أي: "صدقنا بما تشابه من آي الكتاب، وأنه حقّ وإن لم نَعلم تأويله" (?).

قال ابن عباس: " يعني: ما نسخ وما لم ينسخ" (?)، وروي عن عائشة والسدي نحو ذلك (?).

روي عن الضحاك: " {والراسخون في العلم يقولون آمنا به}، قال: المحكم والمتشابه" (?).

وعنه أيضا: " {والراسخون في العلم يقولون آمنا به}، نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهه: ولا نعمل به، يعني: بمتشابهه" (?).

قال قتادة: " آمنوا بمتشابهه وعملوا بمحكمه، فأحلوا حلاله وحرموا حرامه" (?).

قال الطبري: " العلماء الذين قد أتقنوا علمهم ووَعَوْه فحفظوه حفظًا، لا يدخلهم في معرفتهم وعلمهم بما علموه شَكّ ولا لبس" (?).

وري عن أبي الدرداء وأبي أمامة قالا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن الراسخ في العلم؟ قال: " من بَرَّت يمينهُ، وصَدقَ لسانه، واستقام به قلبه، وعفّ بطنه، فذلك الراسخُ في العلم" (?).

وفي قوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] وجهان (?):

أحدهما: يعني الثابتين فيه، العاملين به.

والثاني: يعني المستنبطين للعلم والعاملين، وفيهم وجهان (?):

أحدهما: أنهم داخلون في الاستثناء، وتقديره: أن الذي يعلم تأويله الله والراسخون في العلم جميعاً.

روى ابن أبي نجيح عن ابن عباس أنه قال: "أنا ممن يعلم تأويله" (?).

الثاني: أنهم خارجون من الاستثناء، ويكون معنى الكلام: ما يعلم تأويله إلا الله وحده، ثم استأنف فقال {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ}.

وقرأ أبىّ: "ويقول الراسخون" (?).

قوله تعالى: {كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، "أي كلّ من المتشابه والمحكم حقٌ وصدق لأنه كلام الله" (?).

قال الزمخشري: " أي كل واحد منه ومن المحكم من عنده، أو بالكتاب كل من متشابهه ومحكمه من عند اللَّه الحكيم الذي لا يتناقض كلامه ولا يختلف كتابه" (?).

ويحتمل قوله تعالى: {كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] جهين (?):

أحدهما: علم ذلك عند ربنا.

والثاني: ما فصله من المحكم والمتشابه، فنزل من عند ربنا.

قوله تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]، "أي ما يتعظ ويتدبر إِلا أصحاب العقول السليمة المستنيرة" (?).

قال مقاتل بن حيان: " إلا كل ذي لبّ" (?).

قال السعدي: " أي: يتعظ بمواعظ الله ويقبل نصحه وتعليمه إلا أهل العقول الرزينة لب العالم وخلاصة بني آدم يصل التذكير إلى عقولهم، فيتذكرون ما ينفعهم فيفعلونه، وما يضرهم فيتركونه، وأما من عداهم فهم القشور الذي لا حاصل له ولا نتيجة تحته، لا ينفعهم الزجر والتذكير لخلوهم من العقول النافعة" (?).

الفوائد:

1 - من فوائد الآية الكريمة أن القرآن كلام الله، لقوله تعالى {هو الذي أنزل عليم الكتاب}، وكلام الله ليس مخلوقا بل صفته عزّ وجلّ.

2 - إثبات علو الله تعالى، لقول: {أنزل}، والإنزال لا يكون إلا من أعلى إلى أسفل، فالله فوق كل شيء.

3 - إن القرآن ينقسم إلى محكم ومتشابه، لقوله تعالى {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}.

4 - وحوب الرجوع إلى المحكم لإزالة الشبهة، لقوله: {هنّ أمّ الكتاب}، يعني مرجعه، وهذا لايختص بالقرآن، بل حتى في السنة، إذا وحت احاديث متشابهة واحاديث محكمة واضحة، فالواجب رد المتشابه إلى المحكم ليكون الجميع محكما.

5 - حكمة الله في جعل القرآن ينقسم إلى قسمين: ووجه الحكمة انه بهذا يحصل الابتلاء والامتحان، فلامؤمن لايضل بهذا الانقسام، والذي في قلبه زيغ يضل.

6 - الابتعاد عن إيراد الآيات المتشابهات دون بيان إشكالها، لأنه يؤدي إلى الحيرة والشك.

7 - ومن الفوائد: فضيلة الرسوخ في العلم، وهو الثبات فيه والتعمق فيه حتى تصل إلى جذوره، لقوله تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}.

8 - ومنها: أن مقتضى الربوبية أن الله ينزل على عباده كتابا لا كون فيه اختلاف يوقعهم في الشك والاشتباه، لقوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}، وما كان من عند الرب المعتني بعباده بربوبيته، فلن يكون فيه شيء يتناقض ويختلف.

9 - ومنها: أنه لا يتذكر بهذا القرآن ولا بغيره إلا أصحاب العقول، لقوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ}.

10 - ومن الفوائد ان العقل غير الذكاء، لأننا نجد كثيرا من الناس أذكياء، ولكن لايتذكرون بالقرآن، وهؤلاء عقلاء لكن الذي انتفى عنهم العقل هو عقل التصرف والرشد، أما عقل الإدراك فهم يدركون، ولهذا تقوم عليهم الحجة.

11 - إن من القرآن ما لايعلم تأويله إلا اللهـ لقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} على قراءة الوقف، والفائدة: امتحان العباد بتأدبهم مع الله عزّ وجلّ.

القرآن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015