ومنه قول الشاعر (?):
عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ إِذَا سَافَهُ الْعَوْدَ الدِّيَافِيُّ جَرْجَرا
يريد نفى المنار والاهتداء به (?).
قال القرطبي: " وعلى هذا جمهور المفسرين، يكون التعفف صفة ثابتة لهم، أي لا يسألون الناس إلحاحا ولا غير إلحاح" (?).
الثاني: وقال قوم: "إن المراد نفي الإلحاف، أي أنهم يسألون غير إلحاف، وهذا هو السابق للفهم، أي يسألون غير ملحفين" (?).
والذي ذهب إليه الأكثرون كالفراء والزجاج والطبري وابن الأنباري وأكثر أهل المعاني والتفسير –كما نسب ذلك لهم الواحدي والقرطبي والشوكاني-أن المعنى: لا يسألون الناس البتة لا بإلحاف ولا بغير إلحاف ووجهه: أن التعفف صفة ثابتة لهم لا تفارقهم ومجرد السؤال ينافيها، وأيضاً أن كون الجاهل بهم يحسبهم أغنياء من التعفف لا يكون إلا مع عدم السؤال البتة (?).
قال ابن عطية: " والآية تحتمل المعنيين: نفي السؤال جملة ونفي الإلحاف فقط، أما الأولى فعلى أن يكون التَّعَفُّفِ صفة ثابتة لهم، ويحسبهم الجاهل بفقرهم لسبب تعففهم أغنياء من المال، وتكون {مِنَ} لابتداء الغاية، ويكون قوله: {لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً} لم يرد به أنهم يسألون غير إلحاف بل المراد به التنبيه على سوء حالة من يسأل إلحافا من الناس، كما تقول: هذا رجل خير لا يقتل المسلمين .. وأما المعنى الثاني فعلى أن يكون التَّعَفُّفِ داخلا في المحسبة أي إنهم لا يظهر لهم سؤالا، بل هو قليل" (?).
وقال ابن عثيمين: " هل النفي للقيد؛ أو للقيد والمقيد؟ إن نظرنا إلى ظاهر اللفظ فإن النفي للقيد؛ أي أنهم لا يلحون في المسألة؛ ولكن يسألون؛ وإن نظرنا إلى مقتضى السياق ترجح أنهم لا يسألون الناس مطلقاً؛ فيكون النفي نفياً للقيد - وهو الإلحاف، والمقيد - وهو السؤال؛ والمعنى أنهم لا يسألون مطلقاً؛ ولو كانوا يسألون ما حسبهم الجاهل أغنياء؛ بل لظنهم فقراء بسبب سؤالهم؛ ولكنه ذكر أعلى أنواع السؤال المذموم - وهو الإلحاح؛ ولهذا تجد الإنسان إذا ألح - وإن كان فقيراً - يثقل عليك، وتمل مسألته؛ حتى ربما تأخذك العزة بالإثم ولا تعطيه؛ فتحرمه، أو تنهره مع علمك باستحقاقه؛ وتجد الإنسان الذي يظهر بمظهر الغني المتعفف ترق له، وتعطيه أكثر مما تعطي السائل" (?).
وقال أبو حيان: " "إذا نفي حكم عن محكوم عليه بقيد فالأكثر في لسان العرب انصراف النفي لذلك القيد، فيكون المعنى على هذا ثبوت سؤالهم ونفي الإلحاح، أي: وإن وقع منهم سؤال فإنما يكون بتلطف وتستر لا بإلحاح" (?).