ج- ومن استدلالاتهم أن الذمم والمقاييس الشرعية اختلفت في هذا العصر، فكان لا بد من الذهاب إلى هذا القول مخافةً أن يدعي الزوج عدم طلاقه زوجته أو تدعي هي العكس. جدير بالذكر أن الزواج قديمًا لم يكن بعقد رسمي وكان بإيجاب وقبول وشهادين، وقول «زوجتك وقبلت»، واستحدث بعد ذلك الوثائق والتسجيل في المحكمة وذلك لما خربت الذمم.

الجواب عنه من وجوه:

الأول: أن ما قُطِعَ بالشّرعِ ثبوتُهُ، أو كان على غلبة الظَّنِّ حكمًا شرعيًّا؛ فإنهُ لا يتغيّر بتغير الأزمان ولا يتبدّل بتبدل الذمم والطباع، وهذا من جملة الأحكام الشّرعيّة الثّابتة بالكتاب والسُّنَّة ومنها حكم الطلاق الذي ملّكه اللهُ تعالى للزوج. فالشّريعة لا تدور مَعَ دَوَرانِ شهواتِ النّاس واحتياجاتِهم المحضةِ، وإنّما تتجدّد بتجدّدِ النّظرِ في النّصوص الشّرعيّة والاستنباطِ منها.

فتثبت بذلك الفتوى حينئذ؛ لأن مبناها ليس على زمانٍ أو مكانٍ أو عرفٍ أو حالٍ معين، وهناك من الفتاوى ما تكون مبنية على عرفٍ معين أو معنى معين، أو في حالٍ معينة، فإذا تغيرت هذه الأحوال والأعراف، تغيرت الأحكام، وبالتالي تتغير الفتوى إلى ما يناسب حال الناس واحتياجهم، وأعرافهم، وزمانهم ومكانهم بما لا يخالف النصوص الشرعية.

قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى: "فاعلم أنّ ما جرى ذكره هنا من اختلاف الأحكام عند اختلاف العوائد؛ فليس في الحقيقة باختلافٍ في أصل الخطاب؛ لأنّ الشّرع موضوع على أنّه دائم أبدي لو فُرض بقاء الدّنيا من غير نهاية، والتّكليف كذلك؛ لم يحتج في الشّرع على مزيد، وإنّما معنى الاختلاف أنّ العوائد إذا اختلفت رَجَعَت كلُّ عادةٍ إلى أصلٍ شرعيٍّ يحكم به عليها؛ كما في البلوغ مثلاً، فإن الخطاب التّكليفي مرتفع عن الصبي ما كان قبل البلوغ، فإذا بلغ وقع عليه التكليف. فسقوط التّكليف قبل البلوغ، ثمّ ثبوته بعده ليس باختلاف في الخطاب، وإنّما وقع الاختلاف في العوائد والشّواهد" (?).

الثاني: أنه لا يجوز ترك النصوص القرآنية والأحاديث النبوية الصحيحة الصريحة وإجماعات السلف قرنا بعد قرن، قولاً وعملاً وفُتيا لمجرد احتمالات ومخاوف من تصرف بعض الأفراد الذين يتجرؤون على الشريعة وأحكامها وعلى هدم زيجاتهم وبيوتهم.

قال ابن القيم رحمه الله: "فصل: في تحريم الإفتاء والحكم في دين الله بما يخالف النصوص، وسقوط الاجتهاد والتقليد عند ظهور النص وذكر إجماع العلماء على ذلك، قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا). [الأحزاب: 36]. وذكر رحمه الله جملة من الأدلة من الكتاب والسنة والأقوال الموقوفة على الصحابة رضوان الله عليهم" (?).

الثالث: لا ينبغى للزوجين أن يتغافلا عن عظم جناية الكذب في هذا الباب، لأن كذب الزوج يعني استمتاعه بالفرج الحرام، وكذب الزوجة فيه استحلال مال زوجها بغير حق والله تعالى يقول {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء: 130].

الرابع: إذا كانت الذمم قد خربت فى هذا الزمان فهل يأمنون التلاعب في الأوراق الموثقة والتزوير فيها، وهل يأمنون الكذب عند القاضي وإحضار رجالٍ لا يتورعون عن شهادة الزور؟ ومن تتبع مثل هذا في زماننا سيجد ما تشيب منه الرؤوس.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015