صلح أن يخصص عموم الآية، ويحمل على الإِتيان في غير هذا المحل بناء على أن معنى {أَنَّى} (حيث)، وهو المتبادر إلى السياق، ويغني ذلك عن حملها على معنى آخر غير المتبادر (?)، والله أعلم" (?).
وقال الطبري: قوله {أنى شئتم}، يعني: "من أيّ وجه شئتم، وذلك أن (أنَّى) في كلام العرب كلمة تدلّ إذا ابتدئ بها في الكلام على المسألة عن الوجوه والمذاهب، وقد فرَّقت الشعراء بين ذلك في أشعارها، فقال الكميت بن زيد (?):
تَذَكَّر مِنْ أَنَّى وَمِنْ أَيْنَ شُرْبَهُ ... يُؤَامِرُ نَفْسَيْهِ كَذِي الهَجْمَةِ الأبِلْ
وقال أيضًا (?):
أَنَّى وَمِنْ أَيْنَ - آبَكَ - الطَّرَبُ ... مِنْ حَيْثُ لا صَبْوَةٌ وَلا رِيَبُ
فيجاء بـ " أنى " للمسألة عن الوجه، وبـ " أين " للمسألة عن المكان، فكأنه قال: من أيّ وجه، ومن أي موضع راجعك الطرب؟
قال الطبري: " والذي يدل على فساد قول من تأول قول الله تعالى ذكره: " فأتوا حرثكم أنى شئتم "، كيف شئتم - أو تأوله بمعنى: حيث شئتم أو بمعنى: متى شئتم أو بمعنى: أين شئتم أن قائلا لو قال لآخر: " أنى تأتي أهلك؟ "، لكان الجواب أن يقول: " من قُبُلها، أو: من دُبُرها "، كما أخبر الله تعالى ذكره عن مريم إذْ سئلت: (أَنَّى لَكِ هَذَا) أنها قالت: (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)، وإذ كان ذلك هو الجواب، فمعلومٌ أن معنى قول الله تعالى ذكره: " فأتوا حرثكم أنى شئتم "، إنما هو: فأتوا حرثكم من حيثُ شئتم من وجوه المأتى - وأنّ ما عدا ذلك من التأويلات فليس للآية بتأويل، وإذ كان ذلك هو الصحيح، فبيِّنٌ خطأ قول من زعم أن قوله: " فأتوا حرثكم أنى شئتم "، دليلٌ على إباحة إتيان النساء في الأدبار، لأن الدُّبر لا مُحْتَرَثَ فيه، وإنما قال تعالى ذكره: {حرث لكم}، فأتوا الحرث من أيّ وجوهه شئتم. وأيُّ مُحْتَرَث في الدُبر فيقال: ائته من وجهه؟ وبيِّنٌ بما بينا، صحةُ معنى ما روي عن جابر وابن عباس: من أن هذه الآية نزلت فيما كانت اليهود تقوله للمسلمين: " إذا أتَى الرجلُ المرأةَ من دُبرها في قُبُلها، جاء الولد أحول"" (?).