وفي هذه الآية التفات من التكلم إلى الغيبة في قوله تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ... } [البقرة: 159]، وقوله تعالى: {أولئك يلعنهم الله} [البقرة: 159]؛ ولم يقل: «نلعنهم»؛ وللالتفات فائدتان (?):

الأولى: تنبيه المخاطب؛ لأنه إذا تغير نسق الكلام أوجب أن ينتبه المخاطب لما حصل من التغيير.

والفائدة الثانية: تكون بحسب السياق: ففي هذه الآية: {أولئك يلعنهم الله} الفائدة: التعظيم؛ لأن قوله: {يلعنهم الله} أبلغ في التعظيم من «أولئك نلعنهم»؛ لأن المتكلم إذا تحدث عن نفسه بصيغة الغائب صار أشد هيبة، مثل قول الملك: إن الملك يأمركم بكذا، وكذا؛ وأمر الملك بكذا، وكذا - ويعني نفسه.

الفوائد:

1 - من فوائد الآية: أن توبة الكاتمين للعلم لا تكون إلا بالبيان، والإصلاح؛ لقوله تعالى: {إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا}: ثلاثة شروط:

الأول: التوبة؛ وهي الرجوع عما حصل من الكتمان.

الثاني: الإصلاح لما فسد بكتمانهم؛ لأن كتمانهم الحق حصل به فساد.

الثالث: بيان الحق غاية البيان.

وبهذا تبدل سيئاتهم حسنات.

2 - ومن فوائد الآية: أن كل ذنب - وإن عظم - إذا تاب الإنسان منه فإن الله سبحانه وتعالى يتوب عليه.

3 - ومنها: إثبات اسمين من أسماء الله سبحانه وتعالى، وهما {التواب}، و {الرحيم}؛ {التواب} على من أذنب؛ {الرحيم} على من أخلص، وعمل؛ فالرحمة تجلب الخير؛ والتوبة تدفع الشر.

4 - ومنها: إثبات صفتين من صفات الله؛ وهما التوبة، والرحمة.

5 - ومنها: إثبات حكمين من هذين الاسمين: أن الله يتوب، ويرحم؛ ولهذا قال تعالى: {فأولئك أتوب عليهم}.

6 - ومنها: توكيد الحكم بما يوجبه؛ لقوله تعالى: {وأنا التواب الرحيم}.

7 - ومنها: كثرة توبة الله، وكثرة من يتوب عليهم؛ لقوله تعالى: {التواب}.

والتوبة هي الرجوع إلى الله من معصيته إلى طاعته؛ فيرجع من الشرك إلى التوحيد؛ ومن الزنى إلى العفاف؛ ومن الاستكبار إلى الذل، والخضوع؛ ومن كل معصية إلى ما يقابلها من الطاعة؛ وشروطها خمسة: الإخلاص لله سبحانه وتعالى؛ والندم على الذنب؛ والإقلاع عنه في الحال؛ والعزم على أن لا يعود؛ وأن تكون التوبة في وقت تقبل فيه.

الشرط الأول: الإخلاص لله بأن يكون قصده بالتوبة رضا الله، وثواب الآخرة، وألا يحمله على التوبة خوف مخلوق، أو رجاء مخلوق، أو علو مرتبة، أو ما أشبه ذلك.

الشرط الثاني: الندم على ما جرى منه من الذنب؛ ومعنى «الندم» أن يتحسر الإنسان أن وقع منه هذا الذنب.

الشرط الثالث: الإقلاع عن المعصية؛ وهذا يدخل فيه أداء حقوق العباد إليهم؛ لأن من لم يؤد الحق إلى العباد فإنه لم يقلع؛ فهو ليس شرطاً مستقلاً - كما قاله بعض العلماء؛ ولكنه شرط داخل في الإقلاع؛ إذ إن من لم يؤد الحق إلى أهله لم يقلع عن المعصية.

الشرط الرابع: أن يعزم ألا يعود؛ فإن لم يعزم فلا توبة، وليس من الشرط ألا يعود فإذا صحت التوبة، ثم عاد إلى الذنب لم تبطل توبته الأولى؛ لكنه يحتاج إلى تجديد التوبة.

الشرط الخامس: أن تقع التوبة في الوقت الذي تقبل فيه؛ يعني أن تكون في وقت قبول التوبة؛ وذلك بأن تكون قبل حضور الموت، وقبل طلوع الشمس من مغربها؛ فإذا كان بعد حضور الموت لم تقبل؛ لقوله تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} [النساء: 18]؛ وإذا كانت بعد طلوع الشمس من مغربها لم تقبل؛ لقوله تعالى: {يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم

طور بواسطة نورين ميديا © 2015