قد نرى تحوُّل وجهك -أيها الرسول- في جهة السماء، مرة بعد مرة؛ انتظارًا لنزول الوحي إليك في شأن القبلة، فلنصرفنك عن "بيت المقدس" إلى قبلة تحبها وترضاها، وهي وجهة المسجد الحرام بـ "مكة"، فولِّ وجهك إليها. وفي أي مكان كنتم -أيها المسلمون- وأردتم الصلاة فتوجهوا نحو المسجد الحرام. وإن الذين أعطاهم الله علم الكتاب من اليهود والنصارى لَيعلمون أن تحويلك إلى الكعبة هو الحق الثابت في كتبهم. وما الله بغافل عما يعمل هؤلاء المعترضون المشككون، وسيجازيهم على ذلك.

قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144]، " أي قد نرى تردد نظرك جهة السماء حينا بعد حين، تطلعا للوحي بتحويل القبلة إلى الكعبة" (?).

قال أبو العالية: " يقول: قد نرى نظرك إلى السماء" (?).

قال النسفي: أي" قد نرى يا محمد نحن تردد وجهك وتصرف نظرك في جهة السماء، إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة موافقة لإبراهيم ومخالفة لليهود، ولأنها ادعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم" (?).

وفي قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: 144]، وجهان (?):

الأول: قال جمهور المفسرين: أن ذلك كان لانتظار تحويله من بيت المقدس إلى الكعبة.

الثاني: وهو قول أبي مسلم الأصفهاني، قالوا: لولا الأخبار التي دلت على هذا القول وإلا فلفظ الآية يحتمل وجها آخر، وهو أنه يحتمل أنه عليه السلام إنما كان يقلب وجهه في أول مقدمة المدينة، فقد روي أنه عليه السلام كان إذا صلى بمكة جعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، وهذه صلاة إلى الكعبة فلما هاجر لم يعلم أين يتوجه فانتظر أمر الله تعالى حتى نزل قوله: {فول وجهك شطر المسجد الحرام} (?).

وقد اختلف في السبب الذي من أجله كان صلى الله عليه وسلم يهوى قبلة الكعبة، وفيه قولان (?):

أحدهما: أنه كره قبلةَ بيت المقدس، من أجل أن اليهودَ قالوا: يتَّبع قبلتنا ويُخالفنا في ديننا! . قاله عن مجاهد (?)، وابن زيد (?).

الثاني: أنه كان يهوى ذلك، من أجل أنه كان قبلةَ أبيه إبراهيم عليه السلام. روي ذلك عن ابن عباس (?).

قوله تعالى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144]، " أي فلنوجهنك إِلى قبلةٍ تحبها، - وهي الكعبة" (?).

قال الطبري: " أي فلنصرفنَّك عن بيت المقدس، إلى قبلة تَهواها وتُحبها" (?).

قال المراغي: " أي فلنجعلنّك تلى جهة تحبها وتتشوف لها غير جهة بيت المقدس" (?)

قال أبو العالية: " {فلنولينك قبلة ترضاها}، وذلك أن الكعبة كانت أحب القبلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقلب وجهه في السماء، وكان يهوى الكعبة، فولاه الله قبلة كان يهواها ويرضاها" (?).

قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام} [البقرة: 144]، " أي: فاجعل وجهك بحيث يلى جهة المسجد الحرام" (?).

قال القرطبي: "أي ناحية الكعبة ونحوه" (?).

قال الطبري: أي: " اصرف وجهك وَحوِّله نحو المسجد الحرام" (?).

قال النسفي: " أي: اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد، أي في جهته وسمته، لأن استقبال عين القبلة متعسر على النائي، وذكر المسجد الحرام دون الكعبة دليل على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين" (?).

قال المراغي: " وفي ذكر {الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} دون الكعبة، إيذان بكفاية مراعاة جهة الكعبة حين الصلاة إذا كان بعيدا عنها بحيث لا يراها، ولا يجب استقبال عينها إلا لمن يراها بعينه" (?).

وسمي المسجد (حراماً)؛ "لأنه يمنع فيه من أشياء لا تمنع في غيره، ولأنه محترم معظم؛ والمراد به الكعبة، وما حولها من البناء المعروف" (?).

وذكر أهل التفسير في قوله تعالى: {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَام} [البقرة: 144]، وجهان:

أحدهما: يعني: تلقاءه. قاله أبو العالية (?). وروي عن ابن عباس (?)، ومجاهد (?)، وقتادة (?)، والربيع (?)، والبراء (?)، وابن زيد (?)، ورفيع (?)، نحو ذلك.

والثاني: يعني: وسطه. قاله البراء (?).

قال الطبري: "و (الشطر)، معناه: "النحوَ والقصدَ والتّلقاء" (?)، كما قال الهذلي (?):

إنَّ العَسِيرَ بهَا دَاء مُخَامِرُهَا ... فَشَطْرَهَا نَظَرُ العَيْنَيْنِ مَحْسُورُ

يعني بقوله: شَطْرَها، نحوها. وكما قال ابن أحمر (?):

طور بواسطة نورين ميديا © 2015