وثانيها: إنما سمي العدل وسطا، لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين، والعدل هو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين.
وثالثها: لا شك أن المراد بقوله: {وكذالك جعلناكم أمة وسطا} طريقة المدح لهم، لأنه لا يجوز أن يذكر الله تعالى وصفا ويجعله كالعلة في أن جعلهم شهودا له ثم يعطف على ذلك شهادة الرسول إلا وذلك مدح فثبت أن المراد بقوله: (وسطا) ما يتعلق بالمدح في باب الدين، ولا يجوز أن يمدح الله الشهود حال حكمه عليهم بكونهم شهودا إلا بكونهم عدولا، فوجب أن يكون المراد في الوسط العدالة.
ورابعها: أن أعدل بقاع الشيء وسطه، لأن حكمه مع سائر أطرافه على سواء وعلى اعتدال، والأطراف يتسارع إليها الخلل والفساد والأوسط محمية محوطة فلما صح ذلك في الوسط صار كأنه عبارة عن المعتدل الذي لا يميل إلى جهة دون جهة.
وخامسها: أنه سمي العدل وسطا، من وسط الوادي والقاع، وهو خير موضح فيه، وأكثره كَلأً وماءً، وذلك أن في غالب الأمر الماء يبرح وسط الوادي؛ لأنه في الصيف وشدة الحر ينحسر عن الأطراف إلى جوف الوادي، فيكون الكلأ هناك أكثر، ولذلك تقول العرب: انزل وسط الوادي، أي: خير مكان منه (?)، فعلى هذا (الوسط) اسم وصف به (?).
القول الثاني: أن الوسط من كل شيء خياره.
وقالوا: وهذا التفسير أولى من الأول لوجوه:
أحدها: أن لفظ الوسط يستعمل في الجمادات قال صاحب "الكشاف": "اكتريت جملا من أعرابي بمكة للحج فقال: أعطى من سطا تهنة أراد من خيار الدنانير" (?).
قال الرازي: "ووصف العدالة لا يوجد في الجمادات، فكان هذا التفسير أولى" (?).
الثاني: أنه مطابق لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]
يقول الحافظ ابن كثير: (وسطا) "هاهنا: الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسطُ العرب نسباً وداراً، أي: خيرها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطا في قومه، أي: أشرفهم نسبا، ومنه الصلاة الوسطى، التي هي (أفضل) الصلوات، وهي العصر، كما ثبت في الصحاح وغيرها، ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خَصَّها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب، كما قال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78] " (?).
القول الثالث: أن الرجل إذا قال: فلان أوسطنا نسبا، فالمعنى: أنه أكثر فضلا، وهذا وسط فيهم كواسطة القلادة، وأصل هذا أن الاتباع يحوشون الرئيس فهو في وسطهم وهم حوله فقيل وسط لهذا المعنى (?).
القول الرابع: يجوز أن يكونوا وسطا على معنى: أنهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرط والغالي والمقصر في الأشياء، لأنهم لم يغلوا كما غلت النصارى فجعلوا ابنا وإلها ولا قصروا كتقصير اليهود في قتل الأنبياء وتبديل الكتب وغير ذلك مما قصروا فيه (?).
قال الكلبي: "يعني متوسطة أهل دين: وسط بين الغلو والتقصير لأنهما مذمومان في الدين" (?).