وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ، عَادِلًا، حُكِيَ أَنَّهُ لَمَّا قُتِلَ، وَظَهَرَ الظُّلْمُ بَعْدَهُ، اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ وَاسْتَغَاثُوا بِالْخَلِيفَةِ، وَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُمْ لَعَنُوا الْأَفْضَلَ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ سَبَبِ لَعْنِهِمْ إِيَّاهُ، فَقَالُوا: إِنَّهُ عَدَلَ، وَأَحْسَنَ السِّيرَةَ، فَفَارَقْنَا بِلَادَنَا وَأَوْطَانَنَا، وَقَصَدْنَا بَلَدَهُ لِعَدْلِهِ، فَقَدْ أَصَابَنَا بَعْدَهُ هَذَا الظُّلْمُ، فَهُوَ كَانَ سَبَبَ ظُلْمِنَا.
فَأَحْسَنَ الْخَلِيفَةُ إِلَيْهِمْ، وَأَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاسِ.
وَمِنْهَا أَنَّ صَاحِبَهُ الْآمِرَ بِأَحْكَامِ اللَّهِ، صَاحِبَ مِصْرَ، وَضَعَ مِنْهُ، وَسَبَبُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ، فَفَسَدَ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا، فَأَرَادَ الْآمِرُ أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ مَنْ يَقْتُلُهُ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ قَصْرَهُ لِلسَّلَامِ، أَوْ فِي أَيَّامِ الْأَعْيَادِ، فَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ ابْنُ عَمِّهِ أَبُو الْمَيْمُونِ عَبْدُ الْمَجِيدِ، وَهُوَ الَّذِي وَلِيَ الْأَمْرَ بَعْدَهُ بِمِصْرَ، وَقَالَ لَهُ: فِي هَذَا الْفِعْلِ شَنَاعَةٌ وَسُوءُ سُمْعَةٍ، لِأَنَّهُ قَدْ خَدَمَ دَوْلَتَنَا هُوَ وَأَبُوهُ خَمْسِينَ سَنَةً، وَلَمْ يَعْلَمِ النَّاسُ مِنْهُمَا إِلَّا النُّصْحَ لَنَا، وَالْمَحَبَّةَ لِدَوْلَتِنَا، وَقَدْ سَارَ ذَلِكَ فِي أَقْطَارِ الْبِلَادِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَظْهَرَ مِنَّا هَذِهِ الْمُكَافَأَةُ الشَّنِيعَةُ، وَمَعَ هَذَا فَلَا بُدَّ وَأَنْ نُقِيمَ غَيْرَهُ مَكَانَهُ وَنَعْتَمِدَ عَلَيْهِ فِي مَنْصِبِهِ، مُتَمَكِّنٌ مِثْلُهُ، أَوْ مَا يُقَارِبُهُ، فَيَخَافَ أَنْ نَفْعَلَ بِهِ مِثْلَ فِعْلِنَا بِهَذَا، فَيَحْذَرَ مِنَ الدُّخُولِ إِلَيْنَا خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ دَخَلَ عَلَيْنَا كَانَ خَائِفًا مُسْتَعِدًّا لِلِامْتِنَاعِ، وَفِي هَذَا الْفِعْلِ مِنْهُمْ مَا يُسْقِطُ الْمَنْزِلَةَ، وَالرَّأْيُ أَنْ تُرَاسِلَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنَ الْبَطَائِحِيِّ، فَإِنَّهُ الْغَالِبُ عَلَى أَمْرِ الْأَفْضَلِ، وَالْمُطَّلِعُ عَلَى سِرِّهِ، وَتَعِدُهُ أَنْ تُوَلِّيَهُ مَنْصِبَهُ، وَتَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُدَبِّرَ الْأَمْرَ فِي قَتْلِهِ لِمَنْ يُقَاتِلُهُ، إِذَا رَكِبَ، فَإِذَا ظَفِرْنَا بِمَنْ قَتَلَهُ قَتَلْنَاهُ، وَأَظْهَرْنَا الطَّلَبَ بِدَمِهِ، وَالْحُزْنَ عَلَيْهِ، فَنَبْلُغُ غَرَضَنَا، وَيَزُولُ عَنَّا قُبْحُ الْأُحْدُوثَةِ. فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَقُتِلَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ.
وَلَمَّا قُتِلَ وَلِيَ بَعْدَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ الْبَطَائِحِيِّ الْأَمْرَ، وَلُقِّبَ الْمَأْمُونَ، وَتَحَكَّمَ فِي الدَّوْلَةِ، فَبَقِيَ كَذَلِكَ حَاكِمًا فِي الْبِلَادِ إِلَى سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ وَخَمْسِمِائَةٍ، فَصُلِبَ كَمَا نَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ذِكْرُ عِصْيَانِ سُلَيْمَانَ بْنِ إِيلْغَازِي عَلَى أَبِيهِ
فِي هَذِهِ السَّنَةِ عَصَى سُلَيْمَانُ بْنُ إِيلْغَازِيبْنِ أُرْتُقَ عَلَى أَبِيهِ بِحَلَبَ، وَقَدْ جَاوَزَ عُمُرُهُ عِشْرِينَ سَنَةً، حَمَلَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ عِنْدِهِ، فَسَمِعَ وَالِدُهُ الْخَبَرَ، فَسَارَ مُجِدًّا