بِبِئْرِ مَيْمُونٍ وَنَزَلَ بِهِ، وَدَخَلْنَا مَكَّةَ، فَقَضَيْتُ عُمْرَتِي، وَكُنْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى الْمَنْصُورِ، فَلَمَّا كَانَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا، وَلَمْ نَعْلَمْ، صَلَّيْتُ الصُّبْحَ بِمَكَّةَ، وَرَكِبْتُ أَنَا وَمُحَمَّدُ بْنُ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، وَكَانَ مِنْ مَشَايِخِ بَنِي هَاشِمٍ وَسَادَتِهِمْ، فَلَمَّا صِرْنَا بِالْأَبْطَحِ لَقِينَا الْعَبَّاسَ بْنَ مُحَمَّدٍ وَمُحَمَّدَ بْنَ سُلَيْمَانَ فِي خَيْلٍ إِلَى مَكَّةَ، فَسَلَّمْنَا عَلَيْهِمَا وَمَضَيْنَا، فَقُلْتُ لِمُحَمَّدٍ: أَحْسَبُ الرَّجُلَ قَدْ مَاتَ، فَكَانَ كَذَلِكَ.
ثُمَّ أَتَيْنَا الْعَسْكَرَ، فَإِذَا مُوسَى بْنُ الْمَهْدِيِّ قَدْ صَدَرَ عِنْدَ عَمُودِ السُّرَادِقِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ الْمَنْصُورِ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ السُّرَادِقِ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يَسِيرُ بَيْنَ الْمَنْصُورِ وَبَيْنَ صَاحِبِ الشُّرْطَةِ، وَرَفَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ الْقِصَصَ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ عَلِمْتُ أَنَّ الْمَنْصُورَ قَدْ مَاتَ.
وَأَقْبَلَ الْحَسَنُ بْنُ زَيْدٍ الْعُلْوِيُّ، وَجَاءَ النَّاسُ حَتَّى مَلَئُوا السُّرَادِقَ، وَسَمِعَنَا هَمْسًا مِنْ بُكَاءٍ، وَخَرَجَ أَبُو الْعَنْبَرِ، خَادِمُ الْمَنْصُورِ، مُشَقَّقَ الْأَقْبِيَةِ، وَعَلَى رَأْسِهِ التُّرَابُ، وَصَاحَ: وَاأَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَاهُ! فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ، ثُمَّ تَقَدَّمُوا لِيَدْخُلُوا عَلَيْهِ، فَمَنَعَهُمُ الْخَدَمُ.
وَقَالَ ابْنُ عَيَّاشٍ الْمَنْتُوفُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! أَمَا شَهِدْتُمْ مَوْتَ خَلِيفَةٍ قَطُّ؟ اجْلِسُوا، فَجَلَسُوا، وَقَامَ الْقَاسِمُ فَشَقَّ ثِيَابَهُ، وَوَضَعَ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ، وَمُوسَى عَلَى حَالِهِ.
ثُمَّ خَرَجَ الرَّبِيعُ وَفِي يَدِهِ قِرْطَاسٌ، فَفَتَحَهُ، فَقَرَأَهُ، فَإِذَا فِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ عَبْدِ اللَّهِ الْمَنْصُورِ، أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلَى مَنْ خَلَّفَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَشِيعَتِهِ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ، وَعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ بَكَى، وَبَكَى النَّاسُ، ثُمَّ قَالَ: قَدْ أَمْكَنَكُمُ الْبُكَاءُ، فَأَنْصِتُوا، رَحِمَكُمُ اللَّهُ.
ثُمَّ قَرَأَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي كَتَبْتُ كِتَابِي هَذَا، وَأَنَا حَيٌّ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَأَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، أَقْرَأُ عَلَيْكَمُ السَّلَامَ، وَأَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ لَا يَفْتِنَكُمْ بَعْدِي وَلَا يُلْبِسَكُمْ شِيَعًا، وَلَا يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ.
ثُمَّ أَخَذَ فِي وَصِيَّتِهِمْ بِالْمَهْدِيِّ، وَإِذْكَارِهِمُ الْبَيْعَةَ لَهُ، وَحَثِّهِمْ عَلَى الْوَفَاءِ بِعَهْدِهِ، ثُمَّ تَنَاوَلَ يَدَ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ وَقَالَ: قُمْ فَبَايِعْ! فَقَامَ إِلَى مُوسَى فَبَايَعَهُ، ثُمَّ بَايَعَهُ النَّاسُ الْأَوَّلُ فَالْأَوَّلُ، ثُمَّ أَدْخَلَ بَنُو هَاشِمٍ عَلَى الْمَنْصُورِ وَهُوَ فِي أَكْفَانِهِ، مَكْشُوفَ الرَّأْسِ، فَحَمَلْنَاهُ، حَتَّى أَتَيْنَا بِهِ مَكَّةَ ثَلَاثَ أَمْيَالٍ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ وَالرِّيحُ تُحَرِّكُ شَعْرَ صُدْغَيْهِ،