فَأَخَذَ اللِّوَاءَ بِيَدِهِ فَقَاتَلَ بِهِ، وَانْهَزَمَ أَصْحَابُ نَصْرٍ وَأَخَذُوا لَهُمْ ثَمَانِينَ فَرَسًا، وَصُرِعَ تَمِيمُ بْنُ نَصْرٍ وَأَخَذُوا لَهُ بِرْذَوْنَيْنِ، وَسَقَطَ سَالِمُ بْنُ أَحْوَزَ فَحُمِلَ إِلَى عَسْكَرِ نَصْرٍ. فَلَمَّا كَانَ بَعْضُ اللَّيْلِ خَرَجَ نَصْرٌ مِنْ مَرْوَ، وَقُتِلَ عِصْمَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَسَدِيُّ، فَكَانَ يَحْمِي أَصْحَابَ نَصْرٍ، وَاقْتَتَلُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَانْهَزَمَ أَصْحَابُ الْكَرْمَانِيِّ فِي آخِرِ يَوْمٍ، وَهُمُ الْأَزْدُ وَرَبِيعَةُ، فَنَادَى الْخَلِيلُ بْنُ غَزْوَانَ: يَا مَعْشَرَ رَبِيعَةَ وَالْيَمَنِ قَدْ دَخَلَ الْحَارِثُ السُّوقَ وَقَتَلَ ابْنَ الْأَقْطَعِ! يَعْنِي نَصْرَ بْنَ سَيَّارٍ، فَفَتَّ فِي أَعْضَادِ الْمُضَرِيَّةِ، وَهُمْ أَصْحَابُ نَصْرٍ، فَانْهَزَمُوا، وَتَرَجَّلَ تَمِيمُ بْنُ نَصْرٍ فَقَاتَلَ.
فَلَمَّا هَزَمَتِ الْيَمَانِيَّةُ مُضَرًا أَرْسَلَ الْحَارِثُ إِلَى نَصْرٍ: إِنَّ الْيَمَانِيَّةَ يُعَيِّرُونَنِي بِانْهِزَامِكُمْ وَأَنَا كَافٌّ، فَاجْعَلْ حُمَاةَ أَصْحَابِكَ بِإِزَاءِ الْكَرْمَانِيِّ. فَأَخَذَ عَلَيْهِ نَصْرٌ الْعُهُودَ بِذَلِكَ. وَقَدِمَ عَلَى نَصْرٍ عَبْدُ الْحَكِيمِ بْنُ سَعِيدٍ الْعَوْذِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ عِيسَى بْنُ جُرْزٍ مِنْ مَكَّةَ، فَقَالَ نَصْرٌ لِعَبْدِ الْحَكِيمِ الْعَوْذِيِّ، وَهُمْ بَطْنٌ مِنَ الْأَزْدِ: أَمَا تَرَى مَا فَعَلَ سُفَهَاءُ قَوْمِكَ؟ فَقَالَ: بَلْ سُفَهَاءُ قَوْمِكَ طَالَتْ وِلَايَتُهَا بِوِلَايَتِكَ [وَصَيَّرْتَ الْوِلَايَةَ لِقَوْمِكَ] دُونَ رَبِيعَةَ وَالْيَمَنِ فَبَطِرُوا، وَفِي رَبِيعَةَ وَالْيَمَنِ عُلَمَاءُ وَسُفَهَاءُ، فَغَلَبَ السُّفَهَاءُ الْعُلَمَاءَ. فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عِيسَى لِنَصْرٍ: أَيُّهَا الْأَمِيرُ حَسْبُكَ مِنِ الْوِلَايَةِ وَهَذِهِ الْأُمُورِ، فَإِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، سَيَقُومُ رَجُلٌ مَجْهُولُ النَّسَبِ يُظْهِرُ السَّوَادَ، وَيَدْعُو إِلَى دَوْلَةٍ تَكُونُ، فَيَغْلِبُ عَلَى الْأَمْرِ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. فَقَالَ نَصْرٌ: مَا أَشْبَهَ أَنْ يَكُونَ كَمَا تَقُولُ لِقِلَّةِ الْوَفَاءِ وَسُوءِ ذَاتِ الْبَيْنِ! فَقَالَ: إِنَّ الْحَارِثَ مَقْتُولٌ مَصْلُوبٌ، وَمَا الْكَرْمَانِيُّ مِنْ ذَلِكَ بِبَعِيدٍ.
فَلَمَّا خَرَجَ نَصْرٌ مِنْ مَرْوَ غَلَبَ عَلَيْهَا الْكَرْمَانِيُّ، وَخَطَبَ النَّاسَ فَآمَنَهُمْ، وَهَدَمَ الدُّورَ وَنَهَبَ الْأَمْوَالَ، فَأَنْكَرَ الْحَارِثُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَهَمَّ الْكَرْمَانِيُّ بِهِ ثُمَّ تَرَكَهُ.
وَاعْتَزَلَ بِشْرُ بْنُ جُرْمُوزٍ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ وَقَالَ لِلْحَارِثِ: إِنَّمَا قَاتَلْتُ مَعَكَ طَلَبَ الْعَدْلِ، فَأَمَّا إِذْ كُنْتَ مَعَ الْكَرْمَانِيِّ فَمَا تُقَاتِلُ إِلَّا لِيُقَالَ غَلَبَ الْحَارِثُ، وَهَؤُلَاءِ يُقَاتِلُونَ عَصَبِيَّةً، فَلَسْتُ مُقَاتِلًا مَعَكَ، فَنَحْنُ الْفِئَةُ الْعَادِلَةُ لَا نُقَاتِلُ إِلَّا مَنْ يُقَاتِلُنَا.