وَأَتَى الْحَارِثُ مَسْجِدَ عِيَاضٍ وَأَرْسَلَ إِلَى الْكَرْمَانِيِّ يَدْعُوهُ إِلَى أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ شُورَى، فَأَبَى الْكَرْمَانِيُّ، فَانْتَقَلَ الْحَارِثُ عَنْهُ وَأَقَامُوا أَيَّامًا.
ثُمَّ إِنَّ الْحَارِثَ أَتَى السُّورَ فَثَلَمَ فِيهِ ثُلْمَةً وَدَخَلَ الْبَلَدَ، وَأَتَى الْكَرْمَانِيَّ فَاقْتَتَلُوا فَاشْتَدَّ الْقِتَالُ بَيْنَهُمْ، فَانْهَزَمَ الْحَارِثُ وَقَتَلُوا مَا بَيْنَ الثُّلْمَةِ وَعَسْكَرِهِمْ وَالْحَارِثُ عَلَى بَغْلٍ، فَنَزَلَ عَنْهُ وَرَكِبَ فَرَسًا وَبَقِيَ فِي مِائَةٍ، فَقُتِلَ عِنْدَ شَجَرَةِ زَيْتُونٍ أَوْ غُبَيْرَاءَ، وَقُتِلَ أَخُوهُ سَوَادَةُ وَغَيْرُهُمَا.
وَقِيلَ: كَانَ سَبَبُ قَتْلِهِ أَنَّ الْكَرْمَانِيَّ خَرَجَ إِلَى بِشْرِ بْنِ جُرْمُوزٍ، الَّذِي ذَكَرْنَا اعْتِزَالَهُ، وَمَعَهُ الْحَارِثُ بْنُ سُرَيْجٍ، فَأَقَامَ الْكَرْمَانِيُّ أَيَّامًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَسْكَرِ بِشْرٍ فَرْسَخَانِ، ثُمَّ قَرُبَ مِنْهُ لِيُقَاتِلَهُ، فَنَدِمَ الْحَارِثُ عَلَى اتِّبَاعِ الْكَرْمَانِيِّ وَقَالَ: لَا تَعْجَلْ إِلَى قِتَالِهِمْ فَأَنَا أَرُدُّهُمْ عَلَيْكَ. فَخَرَجَ فِي عَشَرَةِ فَوَارِسَ، فَأَتَى عَسْكَرَ بِشْرٍ فَأَقَامَ مَعَهُمْ، وَخَرَجَ الْمُضَرِيَّةُ أَصْحَابُ الْحَارِثِ مِنْ عَسْكَرِ الْكَرْمَانِيِّ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَ الْكَرْمَانِيِّ مُضَرِيٌّ غَيْرُ سَلَمَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَمْ أَرَ الْحَارِثَ إِلَّا غَادِرًا. وَغَيْرُ الْمُهَلَّبِ بْنِ إِيَاسٍ فَإِنَّهُ قَالَ: لَمْ أَرَ الْحَارِثَ قَطُّ إِلَّا فِي خَيْلٍ تُطْرَدُ، فَقَاتَلَهُمُ الْكَرْمَانِيُّ مِرَارًا، يَقْتَتِلُونَ ثُمَّ يَرْجِعُونَ إِلَى خَنَادِقِهِمْ، مَرَّةً لِهَؤُلَاءِ وَمَرَّةً لِهَؤُلَاءِ.
ثُمَّ إِنَّ الْحَارِثَ ارْتَحَلَ بَعْدَ أَيَّامٍ فَنَقَبَ سُورَ مَرْوَ وَدَخَلَهَا، وَتَبِعَهُ الْكَرْمَانِيُّ فَدَخَلَهَا أَيْضًا، فَقَالَتِ الْمُضَرِيَّةُ لِلْحَارِثِ: تَرَكْنَا الْخَنَادِقَ فَهُوَ يَوْمُنَا، وَقَدْ فَرَرْتَ غَيْرَ مَرَّةٍ فَتَرَجَّلْ. فَقَالَ: أَنَا لَكُمْ فَارِسًا خَيْرٌ مِنِّي لَكُمْ رَاجِلًا. فَقَالُوا: لَا نَرْضَى إِلَّا أَنْ تَتَرَجَّلَ، وَتَرَجَّلَ فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَالْكَرْمَانِيُّ، فَقُتِلَ الْحَارِثُ وَأَخُوهُ بِشْرُ بْنُ جُرْمُوزَ وَعِدَّةٌ مِنْ فُرْسَانِ تَمِيمٍ وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ وَصَفَتْ مَرْوُ لِلْيَمَنِ، فَهَدَمُوا دُورَ الْمُضَرِيَّةِ، فَقَالَ نَصْرُ بْنُ سَيَّارٍ لِلْحَارِثِ حِينَ قُتِلَ، شِعْرٌ:
يَا مُدْخِلَ الذُّلِّ عَلَى قَوْمِهِ ... بُعْدًا وَسُحْقًا لَكَ مِنْ هَالِكِ
شُؤْمُكُ أَرْدَى مُضَرًا كُلَّهَا ... وَحَزَّ مِنْ قَوْمِكَ بِالْحَارِكِ
مَا كَانَتِ الْأَزْدُ وَأَشْيَاعُهَا ... تَطْمَعُ فِي عَمْرٍو وَلَا مَالِكِ
وَلَا بَنِي سَعْدٍ إِذَا أَلْجَمُوا ... كُلَّ طِمِرٍّ لَوْنُهُ حَالِكِ