فَلَمَّا وَصَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِلَى كَرْمَانَ أَتَاهُ عَامِلُهُ، وَقَدْ هَيَّأَ لَهُ نُزُلًا فَنَزَلَ، ثُمَّ رَحَلَ إِلَى سِجِسْتَانَ، فَأَتَى زَرَنْجَ وَفِيهَا عَامِلُهُ، فَأَغْلَقَ بَابَهَا وَمَنَعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ مِنْ دُخُولِهَا، فَأَقَامَ عَلَيْهَا أَيَّامًا لِيَفْتَحَهَا فَلَمْ يَصِلْ إِلَيْهَا، فَسَارَ إِلَى بُسْتٍ، وَكَانَ قَدِ اسْتَعْمَلَ عَلَيْهَا عِيَاضَ بْنَ هِمْيَانَ بْنِ هِشَامٍ السَّدُوسِيَّ الشَّيْبَانِيَّ، فَاسْتَقْبَلَهُ وَأَنْزَلَهُ، فَلَمَّا غَفَلَ أَصْحَابُهُ قَبَضَ عَلَيْهِ عِيَاضٌ وَأَوْثَقَهُ، وَأَرَادَ أَنْ يَأْمَنَ بِهِ عِنْدَ الْحَجَّاجِ.
وَقَدْ كَانَ رُتْبِيلُ مَلِكُ التُّرْكِ سَمِعَ بِمَقْدَمِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَسَارَ إِلَيْهِ لِيَسْتَقْبِلَهُ، فَلَمَّا قَبَضَهُ عِيَاضٌ نَزَلَ رُتْبِيلُ عَلَى بُسْتٍ، وَبَعَثَ إِلَى عِيَاضٍ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَئِنْ آذَيْتَهُ بِمَا يَقْذِي عَيْنَهُ، أَوْ ضَرَرْتَهُ بِبَعْضِ الضَّرَرِ، أَوْ أَخَذْتَ مِنْهُ وَلَوْ حَبْلًا مِنْ شَعْرٍ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَسْتَنْزِلَكَ وَأَقْتُلَكَ وَجَمِيعَ مَنْ مَعَكَ، وَأَسْبِي ذَرَارِيَّكُمْ، وَأَغْنَمَ أَمْوَالَكُمْ. فَاسْتَأْمَنَهُ عِيَاضٌ، فَأَطْلَقَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَأَرَادَ قَتْلَ عِيَاضٍ فَمَنَعَهُ رُتْبِيلُ.
ثُمَّ سَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَعَ رُتْبِيلَ إِلَى بِلَادِهِ، فَأَنْزَلَهُ وَأَكْرَمَهُ وَعَظَّمَهِ. وَكَانَ نَاسٌ كَثِيرٌ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ مِنْ أَصْحَابِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنَ الرُّءُوسِ وَالْقَادَةِ الَّذِينَ لَمْ يَقْبَلُوا أَمَانَ الْحَجَّاجِ وَنَصَبُوا لَهُ الْعَدَاوَةَ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ - قَدْ تَبِعُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَبَلَغُوا سِجِسْتَانَ فِي نَحْوِ سِتِّينَ أَلْفًا، وَنَزَلُوا عَلَى زَرَنْجَ يُحَاصِرُونَ مَنْ بِهَا، وَكَتَبُوا إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَسْتَدْعُونَهُ وَيُخْبِرُونَهُ أَنَّهُمْ عَلَى قَصْدِ خُرَاسَانَ لِيَقْوَوْا بِمَنْ بِهَا مِنْ عَشَائِرِهِمْ، فَأَتَاهُمْ، وَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، إِلَى أَنْ قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ. فَلَمَّا أَتَتْ كُتُبُهُمْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ سَارَ إِلَيْهِمْ، فَفَتَحُوا زَرَنْجَ، وَسَارَ نَحْوَهُمْ عُمَارَةُ بْنُ تَمِيمٍ فِي أَهْلِ الشَّامِ، فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ أَصْحَابُهُ: اخْرُجْ بِنَا عَنْ سِجِسْتَانَ إِلَى خُرَاسَانَ. فَقَالَ: إِنَّ بِهَا يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ وَهُوَ رَجُلٌ شُجَاعٌ، وَلَا يَتْرُكُ لَكُمْ سُلْطَانَهُ، وَلَوْ دَخَلْنَاهَا لَقَاتَلَنَا وَتَبِعَنَا أَهْلُ الشَّامِ، فَيَجْتَمِعُ عَلَيْنَا أَهْلُ خُرَاسَانَ وَأَهْلُ الشَّامِ. فَقَالُوا: لَوْ دَخَلْنَا خُرَاسَانَ لَكَانَ مَنْ يَتْبَعُنَا أَكْثَرَ مِمَّنْ يُقَاتِلُنَا.
فَسَارَ مَعَهُمْ حَتَّى بَلَغُوا هَرَاةَ، فَهَرَبَ مِنْ أَصْحَابِهِ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ الْقُرَشِيُّ فِي أَلْفَيْنِ، فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: إِنِّي كُنْتُ فِي مَأْمَنٍ وَمَلْجَإٍ، فَجَاءَتْنِي كُتُبُكُمْ أَنْ أَقْبِلْ فَإِنَّ أَمْرَنَا وَاحِدٌ، فَلَعَلَّنَا نُقَاتِلُ عَدُوَّنَا، فَأَتَيْتُكُمْ، فَرَأَيْتُمْ أَنْ أَمْضِيَ إِلَى خُرَاسَانَ، وَزَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ تَجْتَمِعُونَ إِلَيَّ وَأَنَّكُمْ لَا تَتَفَرَّقُونَ، وَهَذَا عُبَيْدُ اللَّهِ قَدْ صَنَعَ مَا رَأَيْتُمْ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ، أَمَّا أَنَا فَمُنْصَرِفٌ إِلَى صَاحِبِي الَّذِي أَتَيْتُ مِنْ عِنْدِهِ.
فَتَفَرَّقَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ وَبَقِيَ مَعَهُ طَائِفَةٌ، وَبَقِيَ أَعْظَمُ الْعَسْكَرِ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْعَبَّاسِ فَبَايَعُوهُ، وَمَضَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَشْعَثِ إِلَى رُتْبِيلَ، وَسَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ