وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ أُمَيَّةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ عَامِلُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ عَلَى خُرَاسَانَ، أَمَرَ بُكَيْرًا بِالتَّجْهِيزِ لِغَزْوِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَّاهُ طُخَارِسْتَانَ، فَتَجَهَّزَ لَهُ، فَوَشَى بِهِ بَحِيرُ بْنُ وَرْقَاءَ إِلَى أُمَيَّةَ، فَمَنَعَهُ عَنْهَا، فَلَمَّا أَمَرَهُ بِغَزْوِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ تَجَهَّزَ وَأَنْفَقَ نَفَقَةً كَثِيرَةً وَادَّانَ فِيهَا، فَقَالَ بَحِيرٌ لِأُمَيَّةَ: إِنْ صَارَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ النَّهْرُ خَلَعَ الْخَلِيفَةَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ أُمَيَّةُ: أَنْ أَقِمْ لَعَلِّي أَغْزُو فَتَكُونَ مَعِيَ. فَغَضِبَ بُكَيْرٌ وَقَالَ: كَأَنَّهُ يُضَارُّنِي. وَكَانَ عُقَابُ ذُو اللِّقْوَةِ الْغُدَانِيُّ اسْتَدَانَ لِيَخْرُجَ مَعَ بُكَيْرٍ، فَأَخَذَهُ غُرَمَاؤُهُ فَحُبِسَ حَتَّى أَدَّى عَنْهُ بُكَيْرٌ.
ثُمَّ إِنَّ أُمَيَّةَ تَجَهَّزَ لِلْغَزْوِ إِلَى بُخَارَى، ثُمَّ يَعُودُ مِنْهَا إِلَى مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ بِتِرْمِذَ، وَتَجَهَّزَ النَّاسُ مَعَهُ وَفِيهِمْ بُكَيْرٌ، وَسَارُوا، فَلَمَّا بَلَغُوا النَّهْرَ وَأَرَادُوا قَطْعَهُ قَالَ أُمَيَّةُ لِبُكَيْرٍ: إِنِّي قَدِ اسْتَخْلَفْتُ ابْنِي عَلَى خُرَاسَانَ، وَأَخَافُ أَنَّهُ لَا يَضْبِطُهَا لِأَنَّهُ غُلَامٌ حَدَثٌ، فَارْجِعْ إِلَى مَرْوَ فَاكْفِنِيهَا، فَإِنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَهَا، فَقُمْ بِأَمْرِ ابْنِي.
فَانْتَخَبَ بُكَيْرٌ فُرْسَانًا كَانَ عَرَفَهُمْ وَوَثِقَ بِهِمْ وَرَجَعَ، وَمَضَى أُمَيَّةُ إِلَى بُخَارَى لِلْغُزَاةِ. فَقَالَ عُقَابٌ ذُو اللِّقْوَةِ لِبُكَيْرٍ: إِنَّا طَلَبْنَا أَمِيرًا مِنْ قُرَيْشٍ، فَجَاءَنَا أَمِيرٌ يَلْعَبُ بِنَا وَيُحَوِّلُنَا مِنْ سِجْنٍ إِلَى سِجْنٍ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَحْرِقَ هَذِهِ السُّفُنَ، وَنَمْضِيَ إِلَى مَرْوَ، وَنَخْلَعَ أُمَيَّةَ وَنُقِيمَ بِمَرْوَ وَنَأْكُلَهَا إِلَى يَوْمٍ مَا. وَوَافَقَهُ الْأَحْنَفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَنْبَرِيُّ عَلَى هَذَا. قَالَ بُكَيْرٌ: أَخَافَ أَنْ يَهْلِكَ هَؤُلَاءِ الْفُرْسَانُ الَّذِينَ مَعِي. قَالَ: إِنْ هَلَكَ هَؤُلَاءِ فَأَنَا أَتِيكَ مِنْ أَهْلِ مَرْوَ بِمَا شِئْتَ. قَالَ: يَهْلِكُ الْمُسْلِمُونَ. قَالَ: إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ يُنَادِيَ مُنَادٍ: مَنْ أَسْلَمَ رَفَعْنَا عَنْهُ الْخَرَاجَ، فَيَأْتِيكَ خَمْسُونَ أَلْفًا أَسْمَعُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَأَطْوَعُ. قَالَ: فَيَهْلِكُ أُمَيَّةُ وَمَنْ مَعَهُ. قَالَ: وَلِمَ يَهْلِكُونَ وَلَهُمْ عَدَدٌ وَعِدَّةٌ وَنَجْدَةٌ وَسِلَاحٌ ظَاهِرٌ، لِيُقَاتِلُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَبْلُغُوا الصِّينَ! فَحَرَقَ بُكَيْرٌ السُّفُنَ وَرَجَعَ إِلَى مَرْوَ، فَأَخَذَ ابْنُ أُمَيَّةَ بِحَبْسِهِ وَخَلْعِ أُمَيَّةَ.
وَبَلَغَ أُمَيَّةَ الْخَبَرُ فَصَالَحَ أَهْلَ بُخَارَى عَلَى فِدْيَةٍ قَلِيلَةٍ، وَرَجَعَ وَأَمَرَ بِاتِّخَاذِ السُّفُنِ، وَعَبَرَ وَذَكَرَ لِلنَّاسِ إِحْسَانَهُ إِلَى بُكَيْرٍ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَأَنَّهُ كَافَأَهُ بِالْعِصْيَانِ، وَسَارَ إِلَى مَرْوَ، وَأَتَاهُ مُوسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَازِمٍ، وَأَرْسَلَ أُمَيَّةُ شَمَّاسَ بْنَ دِثَارٍ فِي ثَمَانِمِائَةٍ، فَسَارَ إِلَيْهِ بُكَيْرٌ وَبَيَّتَهُ فَهَزَمَهُ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ لَا يَقْتُلُوا مِنْهُمْ أَحَدًا، فَكَانُوا يَأْخُذُونَ سِلَاحَهُمْ وَيُطْلِقُونَهُمْ، وَقَدِمَ أُمَيَّةُ فَتَلَقَّاهُ شَمَّاسٌ، فَقَدَّمَ أُمَيَّةُ ثَابِتَ بْنَ قُطْبَةَ، فَلَقِيَهُ بُكَيْرٌ فَأَسَرَ ثَابِتًا وَفَرَّقَ جَمْعَهُ، ثُمَّ أَطْلَقَهُ لِيَدٍ كَانَتْ لِثَابِتٍ عِنْدَهُ.