يَبْلُغُونَ مِنْكَ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ أَبَدًا فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَا أُبَالِي أَنْ أُطِيعَ الْقَوْمَ فِي بَعْضِ أَمْرِهِمْ وَلَا يَرَوْنَ أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ طَاعَتِهِمْ، وَأَمَّا هُمْ فَيَقْبَلُونَ بَعْضَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ، وَوَاللَّهِ لَوْ ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَهَا مِنْكَ مَا رَكِبْتُهَا مِنْكَ، وَإِنِّي قَدْ جِئْتُكَ تَائِبًا مِمَّا كَانَ مِنِّي إِلَى رَبِّي مُؤَاسِيًا لَكَ بِنَفْسِي حَتَّى أَمُوتَ بَيْنَ يَدَيْكَ، أَفْتَرَى ذَلِكَ تَوْبَةً؟ قَالَ: نَعَمْ، يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْكَ وَيَغْفِرُ لَكَ.

وَتَقَدَّمَ الْحُرُّ أَمَامَ أَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا الْقَوْمُ أَلَا تَقْبَلُونَ مِنَ الْحُسَيْنِ خَصْلَةً مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ الَّتِي عَرَضَ عَلَيْكُمْ فَيُعَافِيَكُمُ اللَّهُ مِنْ حَرْبِهِ وَقِتَالِهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ حَرَصْتُ لَوْ وَجَدْتُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ لِأُمِّكُمُ الْهَبَلُ وَالْعُبْرُ! أَدَعَوْتُمُوهُ حَتَّى إِذَا أَتَاكُمْ أَسْلَمْتُمُوهُ وَزَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ قَاتِلُوا أَنْفُسَكُمْ دُونَهُ ثُمَّ عَدَوْتُمْ لِتَقْتُلُوهُ؟ أَمْسَكْتُمْ بِنَفْسِهِ وَأَحَطْتُمْ بِهِ وَمَنَعْتُمُوهُ مِنَ التَّوَجُّهِ فِي بِلَادِ اللَّهِ الْعَرِيضَةِ حَتَّى يَأْمَنَ وَيَأْمَنَ أَهْلُ بَيْتِهِ، فَأَصْبَحَ كَالْأَسِيرِ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا يَدْفَعُ عَنْهَا ضُرًّا، وَمَنَعْتُمُوهُ وَمَنْ مَعَهُ عَنْ مَاءِ الْفُرَاتِ الْجَارِي يَشْرَبُهُ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ وَالْمَجُوسِيُّ وَيَتَمَرَّغُ فِيهِ خَنَازِيرُ السَّوَادِ وَكِلَابُهُ وَهَا هُوَ وَأَهْلُهُ قَدْ صَرَعَهُمُ الْعَطَشُ! بِئْسَمَا خَلَفْتُمْ مُحَمَّدًا فِي ذُرِّيَّتِهِ! لَا سَقَاكُمُ اللَّهُ يَوْمَ الظَّمَأِ إِنْ لَمْ تَتُوبُوا وَتَنْزِعُوا عَمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ! فَرَمَوْهُ بِالنَّبْلِ، فَرَجَعَ حَتَّى وَقَفَ أَمَامَ الْحُسَيْنِ.

ثُمَّ قَدِمَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ بِرَايَتِهِ، وَأَخَذَ سَهْمًا فَرَمَى بِهِ وَقَالَ: اشْهَدُوا لِي أَنِّي أَوَّلُ رَامٍ! ثُمَّ رَمَى النَّاسَ، وَبَرَزَ يَسَارٌ، مَوْلَى زِيَادٍ، وَسَالِمٌ، مَوْلَى عُبَيْدِ اللَّهِ، وَطَلَبَا الْبِرَازَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرٍ الْكَلْبِيُّ، وَكَانَ قَدْ أَتَى الْحُسَيْنَ مِنَ الْكُوفَةِ وَسَارَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ، فَقَالَا لَهُ: مَنْ أَنْتِ؟ فَانْتَسَبَ لَهُمَا.

فَقَالَا: لَا نَعْرِفُكَ، لِيَخْرُجْ إِلَيْنَا زُهَيْرُ بْنُ الْقَيْنِ، أَوْ حَبِيبُ بْنُ مُطَهِّرٍ، أَوْ بُرَيْرُ بْنُ خُضَيْرٍ.

وَكَانَ يَسَارٌ أَمَامَ سَالِمٍ، فَقَالَ لَهُ الْكَلْبِيُّ: يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ، وَبِكَ رَغْبَةٌ عَنْ مُبَارَزَةِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَمَا يَخْرُجُ إِلَيْكَ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ خَيْرٌ مِنْكَ! ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ حَتَّى بَرَدَ فَاشْتَغَلَ بِهِ يَضْرِبُهُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ سَالِمٌ، فَلَمْ يَأْبَهْ لَهُ حَتَّى غَشِيَهُ فَضَرَبَهُ، فَاتَّقَاهُ الْكَلْبِيُّ بِيَدِهِ فَأَطَارَ أَصَابِعَ كَفِّهِ الْيُسْرَى، ثُمَّ مَالَ عَلَيْهِ الْكَلْبِيُّ فَضَرَبَهُ حَتَّى قَتَلَهُ، وَأَخَذَتِ امْرَأَتُهُ عَمُودًا، وَكَانَتْ تُسَمَّى أُمَّ وَهْبٍ، وَأَقْبَلَتْ نَحْوَ زَوْجِهَا وَهِيَ تَقُولُ: فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي! قَاتِلْ دُونَ الطَّيِّبِينَ ذُرِّيَّةِ مُحَمَّدٍ! فَرَدَّهَا نَحْوَ النِّسَاءِ، فَامْتَنَعَتْ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015