وَعَرَضَتْ عَلَيْهِ بَكْرُ بْنُ وَائِلٍ، فَقَالَ لَهَا مَا قَالَ لِطَيِّءٍ وَأَسَدٍ. وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ فَأَتَيَا أَبَا مُوسَى بِكِتَابِ عَلِيٍّ، وَقَامَا فِي النَّاسِ بِأَمْرِهِ، فَلَمْ يُجَابَا إِلَى شَيْءٍ. فَلَمَّا أَمْسَوْا دَخْلَ نَاسٌ مَنْ أَهْلِ الْحِجَى عَلَى أَبِي مُوسَى فَقَالُوا: مَا تَرَى فِي الْخُرُوجِ؟ فَقَالَ: كَانَ الرَّأْيُ بِالْأَمْسِ لَيْسَ الْيَوْمَ، إِنَّ الَّذِي تَهَاوَنْتُمْ [بِهِ] فِيمَا مَضَى هُوَ الَّذِي جَرَّ عَلَيْكُمْ مَا تَرَوْنَ، إِنَّمَا هُمَا أَمْرَانِ: الْقُعُودُ سَبِيلُ الْآخِرَةِ، وَالْخُرُوجُ سَبِيلُ الدُّنْيَا، فَاخْتَارُوا. فَلَمْ يَنْفِرْ إِلَيْهِ أَحَدٌ، فَغَضِبَ مُحَمَّدٌ وَمُحَمَّدٌ، وَأَغْلَظَا لِأَبِي مُوسَى. فَقَالَ لَهُمَا: وَاللَّهِ إِنَّ بَيْعَةَ عُثْمَانَ لَفِي عُنُقِي وَعُنُقِ صَاحِبِكُمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ قِتَالٍ لَا نُقَاتِلُ أَحَدًا حَتَّى نَفْرَغَ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ حَيْثُ كَانُوا.
فَانْطَلَقَا إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ وَهُوَ بِذِي قَارٍ، فَقَالَ لِلْأَشْتَرِ، وَكَانَ مَعَهُ: أَنْتَ صَاحِبُنَا فِي أَبِي مُوسَى وَالْمُعْتَرِضُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، اذْهَبْ أَنْتَ وَابْنُ عَبَّاسٍ فَأَصْلِحْ مَا أَفْسَدْتَ. فَخَرَجَا فَقَدِمَا الْكُوفَةَ، فَكَلَّمَا أَبَا مُوسَى، وَاسْتَعَانَا عَلَيْهِ بِنَفَرٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَقَامَ لَهُمْ أَبُو مُوسَى وَخَطَبَهُمْ وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِينَ صَحِبُوهُ أَعْلَمُ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ مِمَّنْ لَمْ يَصْحَبْهُ، وَإِنَّ لَكُمْ عَلَيْنَا لَحَقًّا، وَأَنَا مُؤَدٍّ إِلَيْكُمْ نَصِيحَةً، كَانَ الرَّأْيُ أَنْ لَا تَسْتَخِفُّوا بِسُلْطَانِ اللَّهِ، وَأَنْ لَا تَجْتَرِئُوا عَلَى اللَّهِ، وَأَنْ تَأْخُذُوا مَنْ قَدِمَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْمَدِينَةِ فَتَرُدُّوهُمْ إِلَيْهَا حَتَّى يَجْتَمِعُوا، فَهُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ تَصْلُحُ لَهُ الْإِمَامَةُ، وَهَذِهِ فِتْنَةٌ صَمَّاءُ، النَّائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ الْيَقْظَانِ، وَالْيَقِظَانُ خَيْرٌ مِنَ الْقَاعِدِ، وَالْقَاعِدُ خَيْرٌ مِنَ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ خَيْرٌ مِنَ الرَّاكِبِ، وَالرَّاكِبُ خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، فَكُونُوا جُرْثُومَةً مِنْ جَرَاثِيمِ الْعَرَبِ، فَأَغْمِدُوا السُّيُوفَ، وَانْصِلُوا الْأَسِنَّةَ، وَاقْطَعُوا الْأَوْتَارَ، وَآوُوا الْمَظْلُومَ وَالْمُضْطَهَدَ، حَتَّى يَلْتَئِمَ هَذَا الْأَمْرُ، وَتَنْجَلِيَ هَذِهِ الْفِتْنَةُ.
فَرَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَشْتَرُ إِلَى عَلِيٍّ فَأَخْبَرَاهُ الْخَبَرَ، فَأَرْسَلَ ابْنَهُ الْحَسَنَ وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، وَقَالَ لِعَمَّارٍ: انْطَلَقْ فَأَصْلِحْ مَا أَفْسَدْتَ. فَأَقْبَلَا حَتَّى دَخَلَا الْمَسْجِدَ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ أَتَاهُمَا الْمَسْرُوقُ بْنُ الْأَجْدَعِ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمَا، وَأَقْبَلَ عَلَى عَمَّارٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ عَلَامَ قَتَلْتُمْ عُثْمَانَ؟ قَالَ: عَلَى شَتْمِ أَعْرَاضِنَا وَضَرْبِ أَبْشَارِنَا.
قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا عَاقَبْتُمْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَكَانَ خَيْرًا لِلصَّابِرِينَ. فَخَرَجَ أَبُو مُوسَى فَلَقِيَ الْحَسَنَ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَأَقْبَلَ عَلَى عَمَّارٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ أَعَدَوْتَ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَنْ عَدَا،