فَانْصَرَفَ عِمْرَانُ إِلَى بَيْتِهِ وَقَامَ عُثْمَانُ فِي أَمْرِهِ، فَأَتَاهُ هِشَامُ بْنُ عَامِرٍ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ الَّذِي تُرِيدُهُ يُسْلِمُ إِلَى شَرٍّ مِمَّا تَكْرَهُ، إِنَّ هَذَا فَتْقٌ لَا يُرْتَقُ، وَصَدْعٌ لَا يُجْبَرُ، فَارْفُقْ بِهِمْ وَسَامِحْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ عَلِيٍّ. فَأَبَى وَنَادَى عُثْمَانُ فِي النَّاسِ وَأَمَرَهُمْ بِلُبْسِ السِّلَاحِ، فَاجْتَمَعُوا إِلَى الْمَسْجِدِ وَأَمَرَهُمْ بِالتَّجْهِيزِ، وَأَمَرَ رَجُلًا دَسَّهُ إِلَى النَّاسِ خَدِعًا كُوفِيًّا قَيْسِيًّا، فَقَامَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ أَنَا قَيْسُ بْنُ الْعَقَدِيَّةِ الْحُمَيْسِيُّ، إِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ إِنْ كَانُوا جَاؤُوا خَائِفِينَ فَقَدْ أَتَوْا مِنْ بَلَدٍ يَأْمَنُ فِيهِ الطَّيْرُ، وَإِنْ كَانُوا جَاءُوا يَطْلُبُونَ بِدَمِ عُثْمَانَ، فَمَا نَحْنُ بِقَتَلَةِ عُثْمَانَ، فَأَطِيعُونِي وَرَدُّوهُمْ مِنْ حَيْثُ جَاؤُوا. فَقَامَ الْأَسْوَدُ بْنُ سَرِيعٍ السَّعْدِيُّ فَقَالَ: أَوَزَعَمُوا أَنَّا قَتَلَةُ عُثْمَانَ؟ إِنَّمَا أَتَوْا يَسْتَعِينُونَ بِنَا عَلَى قَتَلَةِ عُثْمَانَ مِنَّا وَمِنْ غَيْرِنَا. فَحَصَبَهُ النَّاسُ، فَعَرَفَ عُثْمَانُ أَنَّ لَهُمْ بِالْبَصْرَةِ نَاصِرًا، فَكَسَرَهُ ذَلِكَ.
فَأَقْبَلَتْ عَائِشَةُ فِيمَنْ مَعَهَا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الْمِرْبَدِ، فَدَخَلُوا مِنْ أَعْلَاهُ، وَوَقَفُوا حَتَّى خَرَجَ عُثْمَانُ فِيمَنْ مَعَهُ وَخَرَجَ إِلَيْهَا مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا، فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ بِالْمِرْبَدِ، فَتَكَلَّمَ طَلْحَةُ وَهُوَ فِي مَيْمَنَةِ الْمِرْبَدِ، وَعُثْمَانُ فِي مَيْسَرَتِهِ، فَأَنْصَتُوا لَهُ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَذَكَرَ عُثْمَانَ وَفَضْلَهُ وَمَا اسْتَحَلَّ مِنْهُ، وَدَعَا إِلَى الطَّلَبِ بِدَمِهِ وَحَثَّهُمْ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الزُّبَيْرُ. فَقَالَ مَنْ فِي مَيْمَنَةِ الْمِرْبَدِ: صَدَقَا وَبَرَّا. وَقَالَ فِي مَيْسَرَتِهِ: فَجَرَا وَغَدَرَا وَأَمَرَا بِالْبَاطِلِ، فَقَدْ بَايَعَا عَلِيًّا ثُمَّ جَاءَا يَقُولَانِ، وَتَحَاثَى النَّاسُ وَتَحَاصَبُوا وَأَرْهَجُوا.
فَتَكَلَّمَتْ عَائِشَةُ، وَكَانَتْ جَهْوَرِيَّةَ الصَّوْتِ، فَحَمِدَتِ اللَّهَ وَقَالَتْ: كَانَ النَّاسُ يَتَجَنَّوْنَ عَلَى عُثْمَانَ وَيَزْرُونَ عَلَى عُمَّالِهِ، وَيَأْتُونَنَا بِالْمَدِينَةِ فَيَسْتَشِيرُونَنَا فِيمَا يُخْبِرُونَنَا عَنْهُمْ، فَنَنْظُرُ فِي ذَلِكَ فَنَجِدُهُ بَرِيئًا تَقِيًّا وَفِيًّا، وَنَجِدُهُمْ فَجَرَةً غَدَرَةً كَذَبَةً، وَهُمْ يُحَاوِلُونَ غَيْرَ مَا يُظْهِرُونَ، فَلَمَّا قَوَوْا كَاثَرُوهُ، وَاقْتَحَمُوا عَلَيْهِ دَارَهُ، وَاسْتَحَلُّوا الدَّمَ الْحَرَامَ، وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ، وَالْبَلَدَ الْحَرَامَ، بِلَا تِرَةٍ وَلَا عُذْرٍ، أَلَا إِنَّ مِمَّا يَنْبَغِي لَا يَنْبَغِي لَكُمْ غَيْرُهُ، أَخْذُ قَتَلَةِ عُثْمَانَ وَإِقَامَةُ كِتَابِ اللَّهِ، وَقَرَأَتْ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ} [آل عمران: 23] الْآيَةَ، فَافْتَرَقَ أَصْحَابُ عُثْمَانَ فِرْقَتَيْنِ، فِرْقَةٌ قَالَتْ: صَدَقَتْ وَبَرَّتْ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: كَذَبْتُمْ وَاللَّهِ مَا نَعْرِفُ مَا جِئْتُمْ بِهِ! فَتَحَاثَوْا وَتَحَاصَبُوا. فَلَمَّا رَأَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ انْحَدَرَتْ وَانْحَدَرَ أَهْلُ الْمَيْمَنَةِ مُفَارِقِينَ لِعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ حَتَّى وَقَفُوا فِي الْمِرْبَدِ فِي مَوْضِعِ الدَّبَّاغِينَ، وَبَقِيَ أَصْحَابُ عُثْمَانَ عَلَى حَالِهِمْ، وَمَالَ بَعْضُهُمْ إِلَى عَائِشَةَ وَبَقِيَ بَعْضُهُمْ مَعَ عُثْمَانَ.