خَرَجَتْ مِنْ مَكَّةَ تُرِيدُ الْمَدِينَةَ. فَلَمَّا كَانَتْ بِسَرِفَ لَقِيَهَا رَجُلٌ مِنْ أَخْوَالِهَا مِنْ بَنِي لَيْثٍ يُقَالُ لَهُ عَبِيدُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، وَهُوَ ابْنُ أُمِّ كِلَابٍ، فَقَالَتْ لَهُ: مَهْيَمْ؟ قَالَ: قُتِلَ عُثْمَانُ وَبَقَوْا ثَمَانِيًا. قَالَتْ: ثُمَّ صَنَعُوا مَاذَا؟ قَالَ: اجْتَمَعُوا عَلَى بَيْعَةِ عَلِيٍّ. فَقَالَتْ: لَيْتَ هَذِهِ انْطَبَقَتْ عَلَى هَذِهِ إِنْ تَمَّ الْأَمْرُ لِصَاحِبِكَ! رُدُّونِي رُدُّونِي! فَانْصَرَفَتْ إِلَى مَكَّةَ وَهِيَ تَقُولُ: قُتِلَ وَاللَّهِ عُثْمَانُ مَظْلُومًا، وَاللَّهِ لَأَطْلُبَنَّ بِدَمِهِ! فَقَالَ لَهَا: وَلِمَ؟ وَاللَّهِ إِنَّ أَوَّلَ مَنْ أَمَالَ حَرْفَهُ لَأَنْتِ، وَلَقَدْ كُنْتِ تَقُولِينَ: اقْتُلُوا نَعْثَلًا فَقَدْ كَفَرَ. قَالَتْ: إِنَّهُمُ اسْتَتَابُوهُ ثُمَّ قَتَلُوهُ، وَقَدْ قُلْتُ وَقَالُوا، وَقَوْلِي الْأَخِيرُ خَيْرٌ مِنْ قَوْلِي الْأَوَّلِ. فَقَالَ لَهَا ابْنُ أُمِّ كِلَابٍ:
فَمِنْكِ الْبَدَاءُ وَمِنْكِ الْغِيَرْ ... وَمِنْكِ الرِّيَاحُ وَمِنْكِ الْمَطَرْ
وَأَنْتِ أَمَرْتِ بِقَتْلِ الْإِمَامِ ... وَقُلْتِ لَنَا إِنَّهُ قَدْ كَفَرْ
فَهَبْنَا أَطَعْنَاكِ فِي قَتْلِهِ ... وَقَاتِلُهُ عِنْدَنَا مَنْ أَمَرْ
وَلَمْ يَسْقُطِ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِنَا ... وَلَمْ يَنْكَسِفْ شَمْسُنَا وَالْقَمَرْ
وَقَدْ بَايَعَ النَّاسُ ذَا تُدْرَإٍ ... يُزِيلُ الشَّبَا وَيُقِيمُ الصَّعَرْ
وَيَلْبَسُ لِلْحَرْبِ أَثْوَابَهَا ... وَمَا مَنْ وَفَى مِثْلُ مَنْ قَدْ غَدَرْ
فَانْصَرَفَتْ إِلَى مَكَّةَ فَقَصَدَتِ الْحِجْرَ فَسَتَّرَتْ فِيهِ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ حَوْلَهَا. فَقَالَتْ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ الْغَوْغَاءَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَأَهْلِ الْمِيَاهِ وَعَبِيدِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ اجْتَمَعُوا عَلَى هَذَا الرَّجُلِ الْمَقْتُولِ ظُلْمًا بِالْأَمْسِ، وَنَقَمُوا عَلَيْهِ اسْتِعْمَالَ مَنْ حَدَثَتْ سِنُّهُ، وَقَدِ اسْتُعْمِلَ أَمْثَالُهُمْ قَبْلَهُ، وَمَوَاضِعَ مِنَ الْحِمَى حَمَاهَا لَهُمْ، فَتَابَعَهُمْ وَنَزَعَ لَهُمْ عَنْهَا. فَلَمَّا لَمْ يَجِدُوا حُجَّةً وَلَا عُذْرًا بَادَرُوا بِالْعُدْوَانِ فَسَفَكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ وَاسْتَحَلُّوا الْبَلَدَ الْحَرَامَ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَأَخَذُوا الْمَالَ الْحَرَامَ، وَاللَّهِ لَإِصْبَعٌ مِنْ عُثْمَانَ خَيْرٌ مِنْ طِبَاقِ الْأَرْضِ أَمْثَالِهِمْ! وَوَاللَّهِ، لَوْ أَنَّ الَّذِي اعْتَدَوْا بِهِ عَلَيْهِ كَانَ ذَنْبًا لَخَلَصَ مِنْهُ كَمَا يَخْلُصُ الذَّهَبُ مِنْ خَبَثِهِ أَوِ الثَّوْبُ مِنْ دَرَنِهِ إِذْ مَاصُوهُ كَمَا يُمَاصُ الثَّوْبُ بِالْمَاءِ، أَيْ يُغْسَلُ.