المقدم: نأتي الآن إلى الآية الثالثة والنموذج الثالث، ولعلنا نأخذ آية قرآنية فيها قصة اجتماعية لها ارتباط بمسجد قباء؟ الشيخ: إذا قرناها بالسنة، فالسنة جاء فيها في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن عوف -الذين تكلمنا عنهم في الأول- ليصلح بينهم، وهي القصة التي حدث فيها أن أبا بكر رضي الله عنه صلى بالناس، لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يصلي بالناس فصلى بهم، وتأخر أبو بكر.
أما الآية فالله يقول: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] (نجواهم) تعود إلى عموم الناس، أي: أن الأحاديث أكثرها أغاليط وخوض بمحرم لا ينبغي لأهل الإسلام أن يتلبسوا به، ثم استثنى ربنا، قال: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} [النساء:114] والصدقة أول ما تنصرف إلى إعطاء المال لذوي الحاجات، وقال بعض العلماء: ربما يندرج فيها التسبيح والتهليل لقوله صلى الله عليه وسلم: (كل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة).
لكن الأولى صرفها إلى المعنى اللغوي والشرعي في الأظهر، وهو أنها تنصرف إلى الصدقة المعروفة بالمال على المساكين، وقد جاء في فضلها: (الصدقة تطفئ غضب الرب).
ونحن مقبلون على فصل الشتاء في شدته، وذوو الحاجات من الفقراء والمساكين والأسر يحتاجون إلى أشياء كثر، فلو أن الأثرياء وأصحاب الأموال تصدقوا بدلاً من أن تنفق الأموال فيما لا يرضي الله جل وعلا، أو حتى في مباحات لا يجوز الإكثار منها.
ويجب أن يكون رب الأسرة صاحب المال عاقلاً، فمال يذهب به إلى الفقراء بنفسه سراً، ومال يعطيه لأبنائه أو لبناته ينفقونه ويجعلهم واسطة بينه وبين الأسر الفقيرة، حتى يربي في أبنائه وبناته فضيلة الصدقة وحبها، فهذا مما ينبغي أن ينشأ عليه أبناء الأثرياء وأبناء الأغنياء.
والله جل وعلا يبتلي بالفقر ويبتلي بالغنى، وسيسأل الله جل وعلا من ملكه الأموال ثم لم ينفقها، وسيسأل من أنفقها في معصية الله، أو فاخر بها فيما لا يرضي الله.
البطانيات والسخانات من مطالب الشتاء في الغالب، والأسر لا يمكن أن تعطى هذا في مسجد، أو يعني السائل في مسجد، لكن هناك جمعيات تقوم بهذا، وليس الغرض الآن تزكيتها ولا غير ذلك، لكن أنا أرى أن يقوم الإنسان بالبحث عن هذه الأمور بنفسه ويسأل عنها.
صحيح أن هناك في بلادنا ولله الحمد جمعيات ومؤسسات كثيرة ومؤتمنة، والتواصل معها تواصل محمود، وهم أهل ثقة لا نزكيهم على الله، وجزاهم الله عنا خير الجزاء، وقد حملوا عنا تبعة عظيمة، لكن أحب إلي أن يصنع الإنسان هذا بنفسه.
والتطبيق العملي أن يتوخى ذوي قرابته في المقام الأول، هذا قول الله: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} [النساء:114].
قوله: {أَوْ مَعْرُوفٍ} [النساء:114] كلمة عامة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلمتان تجتمعان أحياناً، فإذا اقترن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يصبح الأمر بالمعروف الأمر بالخير، والنهي عن المنكر ترك الشر، أما إذا لم تقترنا وقيل (الأمر بالمعروف) كما في الآية هنا لوحده أصبح المعنى يحتمل الأمرين، فكل أمر بالمعروف هو ترك للمنكر.
بقينا بالإصلاح، قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم مضى لبني عمرو بن عوف، فالإصلاح بين الناس من أفضل الأعمال، كما أن السعي في الإفساد من أبغض الأعمال إلى الله، قال الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81]، وقال عن أهل معصيته: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205].
وقد ذكر العلماء بناء على أحاديث ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن السعي في الإصلاح بين الناس من أعظم القربات إلى الله، سواء كان ذلك في الأعراض أو في الأموال أو في الدماء، فهذا كله ينبغي للإنسان أن يسعى فيه ويجاهد فيه، فهذا من أقرب ما يتقرب به إلى الله، وقد دل إذنه صلى الله عليه وسلم لمن يسعى بين الناس بالإصلاح أن يكذب على فضيلة هذا العمل.
أما تعلقها بمسجد قباء فهو أن رسول الله خرج إلى بني عمرو بن عوف وكان بينهم شيء من النزاع، فأصلح صلى الله عليه وسلم بينهم، ووجه الدلالة هو أن إمام المسلمين عليه الصلاة والسلام يترك فريضة العصر في مسجده ويأتي بني عمرو بن عوف ليباشر هذا العمل بنفسه، وهذا فيه دلالة ظاهرة على أنه عمل عظيم، وإلا كان بإمكانه عليه الصلاة والسلام وهو المسموع المطاع أن يبعث أحداً يقوم بهذا الصلح، لكنه قام به بنفسه وأتى بني عمرو بن عوف وأصلح بينهم، ولم يعد إلا وصلاة العصر قد أقيمت.
ونحن نقطع أن الصحابة رضي الله عنهم أخروها ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم، فلما غلب على ظنهم تأخره قال بلال لـ أبي بكر: أقيم وتصلي؟ قال: نعم، فصلى أبو بكر إماماً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة وهم في الركعة الأولى، فلما نبه الناس أبا بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قدم تأخر أبو بكر وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم.