حرمة الاحتجاج بالقدر على المعاصي

قال تعالى: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:14] إلى أن أخذ الوعد من ربنا عز وجل حيث قال: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} [الأعراف:15]، فقال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16].

وكأنه يظن أن الله لا يعلم ما في نفسه حتى أخذ الأمر والوعد من الله، فأخبر ربه بما سوف يفعله، وهذا جهل فظيع جداً بصفة العلم، فربنا يعلم ما في نفس إبليس، وأنه يريد أن يفعل ذلك ببني آدم، لكن لهوان الدنيا على الله؛ ولهوان إبليس عليه مد في عمره، قال تعالى: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ} [الأعراف:15] فسبحان الله! عمر إبليس الطويل زاده بعداً من الله عز وجل، فإبليس عائش من قبل أن يخلق سيدنا آدم، وسوف يظل إلى نهاية العالم، ولكن لما طلب من ربنا الدنيا عيشه ربنا الدنيا كلها، إذاً: فالدنيا هذه لا تساوي عند ربنا شيئاً، ولو كانت تساوي شيئاً ما كان أعطاها إبليس أعدى أعدائه، وأول من كفر به بهذه الطريقة، ورد الأمر عليه، ولكن لأن الدنيا هينة لا تساوي شيئاً كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء) يعني: هي أهون من جناح بعوضة، فلو كانت تساوي شيئاً عند الله لما أعطاها إبليس، فعنده عرش على ماء البحر كما ثبت في الحديث، كما قال ابن صياد للنبي عليه الصلاة والسلام لما سأل له: (ما ترى؟ قال: أرى عرشاً على الماء، قال: ترى عرش إبليس على البحر) فسبحان الله! إبليس عنده عرش على البحر، ومملكة وجنود وأعوان وأتباع، وكل هذا مما أعطاه الله عز وجل لهوانه ولهوان الدنيا على الله؛ لذلك عندما تجد للكفرة والظلمة ملكاً وسلطاناً وجنوداً وأتباعاً فلا تغتر؛ لأنهم قد يكونوا أهون على الله من إبليس، فهذا إبليس الذي أعطى الله له أكثر من هؤلاء نعوذ بالله! لذلك فملك أهل الكفر والعدوان والظلم ليس دليلاً على أن الله رضي عنهم، لا، فالله عز وجل أعطى إبليس كذلك: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:15 - 16].

وأول من احتج بالقدر: هو إبليس، فبدل من أن يقول: يا رب! أنا ظلمت نفسي وأخطأت، يقول: يا رب! أنت أغويتني، وأنت الذي أضللتني! وهذا سوء أدب مع الله عز وجل، الذي لا يصلي يقول: إن الله لم يهدن، والذي يفطر في نهار رمضان يقول: ربي ما أراد هدايتي، والتي لا تتحجب تقول: إذا هداني ربي فسأتحجب، فهؤلاء هم على طريقة إبليس، فيقول بعضهم: لو كتب ربنا لنا الهداية لكنا اهتدينا، فهذا يحكم على نفسه أنه من الظالمين، وربنا عز وجل يقول: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258]، {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5].

إذاً: فأنت على خطر عندما تقول: إن ربنا لم يهدك؛ لأنك تحكم على نفسك أنك ظالم والعياذ بالله! فالقدر يحتج به في المصائب لا المعائب، فتب من الذنب الذي عملته إلى الله، ثم بعد هذا احتج بالقدر، وقل: إن ربي قدر علي ذلك، أما وأنت ما زلت مصراً على الذنب تقول: (بما أغويتني) فهذا سوء أدب عظيم مع الله عز وجل، وانظروا إلى أدب إبراهيم عليه السلام عندما يقول: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] وأدب مؤمني الجن من ذرية إبليس، لكن الإيمان هذبهم حين قالوا: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن:10].

فالذي أراد لهم الرشد هو ربهم، وفي الشر قالوا: (أريد) مع أنهم قصدوا الله الذي أراد بهم شراً، ولكنهم تأدبوا مع الله عز وجل.

أما إبليس فيقول: {بِمَا أَغْوَيْتَنِي} [الحجر:39] وربنا عز وجل كتب عليه الغواية فعلاً، ولكنه لم يظلمه سبحانه وتعالى؛ لأنه جعل له قدرة وإرادة، وبها يحصل فعله، فهو الذي اختار الشر والضلال والعياذ بالله! وإلى هذه اللحظة كان يقول: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ} [الأعراف:16] يعني: ما زال مصراً على مزيد من المعاصي وعلى معاندة أمر الله عز وجل، وهو يعلم أن الله يحب من خلقه أن يطيعوه وهو يعاكس أمر الله ويعاكس محبته، ما هذا الكره الفظيع؟! فإبليس منبع الشر والسوء خلقه الله عز وجل وهو يعلم ذلك؛ لكي يجاهده المؤمنون؛ ولكي يتعبدوا الله بمقاومته ومخالفته وارتكاب نهيه وترك أمره، قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268].

فأنت عندما تترك أمر إبليس يصبح طاعة لله عز وجل، فالله جعل منبع الشرور في هذا المخلوق العجيب والعياذ بالله! قال: ((فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي))، إذاً: فالاحتجاج بالقدر مع الإصرار على الذنب فعل إبليس؛ لذلك فإن الجبرية الذين يزعمون أنهم يؤمنون بالقدر ليسوا مؤمنين بالقدر، فقد قدر ربنا على إبليس ذلك، ولكن هذا الإيمان ليس إيماناً بالقدر، كما أن إيمان الجبرية بالقدر ليس إيماناً، فالذي يقول: ربي كتب علي كذا، فهو غير مؤمن بالكتابة هذه؛ لأن الإيمان بالكتابة لا يكون إلا مع السعي في الأخذ بالأسباب، فلو أنك تركت الأكل وقلت: ربي كتب علي أنني أجوع، فهل تصبح مؤمناً بالكتاب؟! ليس هذا هو الإيمان، فالإيمان ليس معرفةً بوجود الشيء وانتهى الأمر، وإن كان لا يوجد أحد في أمر الجوع والشرب سيعمل هذا الأمر أبداً، فكلهم سيقولون: أريد ماءً، أريد أن آكل، فتراه يأخذ بالأسباب، أما في أمر الدين تراه يقول: إلى أن يهديني ربي، ولو أن ربي كتب لي الهداية فسأهتدي، وربي لم يكتب لي الطاعة الفلانية، والعياذ بالله!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015