قال ابن كثير رحمه الله تعالى في قوله عز وجل: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف:22]: يقول تعالى مخبراً عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف، فحكى ثلاثة أقوال: فدل على أنه لا قائل برابع، ولما ضعف القولين الأولين بقوله: ((رَجْمًا بِالْغَيْبِ)) أي: قولاً بلا علم، كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه فإنه لا يكاد يصيب، فإن أصاب فبلا قصد، ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله: ((وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ))، فدل على صحته، وأنه هو الواقع في نفس الأمر.
وقوله: ((قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ)) إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى، إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم، لكن إذا اطلعنا على أمر قلنا به، وإلا وقفنا.
وقوله: ((مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ)) أي: من الناس.
قال قتادة: قال ابن عباس: أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل، كانوا سبعة، هكذا روى ابن جرير عن عطاء الخرساني عنه عن ابن عباس، أنه كان يقول: أنا ممن استثنى الله عز وجل، ويقول: عدتهم سبعة، وعن عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: ((مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ)) قال: أنا من القليل: كانوا سبعة.
فهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس أنهم كانوا سبعة، وهو موافق لما قدمناه.
وهو استدلال دقيق من كتاب الله عز وجل، ذلك أن الله سبحانه وتعالى أبطل قولين وسكت عن الثالث، فأرشد إلى القول الراجح، وأرشد إلى ثمرة الخلاف وما ينبغي في مثل هذا الموقف.
وكما يذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن القرآن أشار في بعض آياته العظيمة إلى ما ينبغي في مسائل الخلاف فالذي ينبغي في مسائل الخلاف.
استيعاب الأقوال المذكورة، وتبيين الباطل منها، وإقرار الحق، وبيان فائدة الخلاف وثمرته إن كان له فائدة، وختم ذلك بتفويض العلم إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال عز وجل: ((فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا))، وهذا دليل على النهي عن استفتاء الجاهل، وأنه لا يجوز أن يُستفتى الجاهل، وهذا إجماع من أهل العلم أنه لا يجوز لأحد من المستفتين أن يستفتي من يعلم جهله أو بدعته أو فسقه.
قال الله سبحانه وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، فرتب الذنوب مبتدأ بتحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق، أي: أن الذنب الذي فيه اعتداء على حقوق المخلوقين أشد وأبعد عن المغفرة، حتى يسامح ذلك المخلوق، ثم ذكر الشرك، ثم ذكر أن يقولوا على الله ما لا يعلمون.
وعموماً فإن الجدال والمراء لا ينبغي أن يكون إلا بالتي هي أحسن، فإن الله عز وجل قال: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46]، وذلك لإظهار الحق وإبطال الباطل، وعدم الدخول في تفاصيل لا فائدة منها، ولا ثمرة من ورائها.
وأما حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقاً)، فهو حديث حسن أو صحيح، فهو لمن علم أن مراءه لا يفيد، وأن جداله وصل إلى طريق مسدود، وأن البحث عن الحق قد انتهى بسبب الخصومة، وأصبح الناس إنما يتعصبون لأقوالهم، فعند ذلك يترك المراء ولو كان محقاً.
وأما إذا كان الطرف الآخر والمناظر أو الباحث يبحث عن الحق ويتحرى الصواب، فينبغي أن يستمر معه في المراء، وليكن بالطريقة السهلة البينة الواضحة الهينة.