قال تعالى: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ} [الكهف:19].
قال ابن كثير رحمه الله: يقول تعالى: كما أرقدناهم بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبصارهم -وكذلك كما أرقدناهم والكاف هنا للتشبيه- لم يفقدوا من أحوالهم وهيئاتهم شيئاً، وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين، ولهذا تساءلوا بينهم: ((كَمْ لَبِثْتُمْ)) أي: كم رقدتم؟ ((قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ))؛ لأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول النهار، واستيقاظهم كان في آخر نهار، ولهذا استدركوا فقالوا: ((أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)) [الكهف:19] يعني: ربما كان جزء يوم، وأقصى ما يمكن أن يكون يوماً كاملاً، فقالوا: ((أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ)) أي: الله أعلم بأمركم، وكأنه حصل لهم نوع تردد في كثرة نومهم فالله أعلم، ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم، إذ ذاك -يعني: في هذا الوقت- وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب، فقالوا: ((فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ)) أي: فضتكم هذه، وذلك أنهم قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها، فتصدقوا منها، وبقي منها، فلهذا قالوا: ((فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ)) أي: مدينتكم التي خرجتم منها، والألف واللام للعهد: ((فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا)) أي: أطيب طعاماً، كقوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:21]، وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14]، ومنه الزكاة التي تطيب المال وتطهره.
وقيل أزكى: أكثر طعاماً، ومنه زكا الزرع إذا كثر، قال الشاعر: قبائلنا سبع وأنتم ثلاثة والسبع أزكى من ثلاث وأطيب والصحيح الأول؛ لأن مقصودهم إنما هو الطيب الحلال، سواء كان كثيراً أو قليلاً.
وقوله: ((وَلْيَتَلَطَّفْ)) أي: في خروجه وذهابه، وشرائه وإيابه، يقولون: وليختف كل ما يقدر عليه، ((وَلا يُشْعِرَنَّ)) أي: ولا يعلمن بكم أحداً: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} أي: إن علموا بمكانكم، ((يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ)) يعنون أصحاب دقيانوس يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم، فلا يزالون يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها أو يموتوا، وإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة، ولهذا قال تعالى عنهم: ((وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا)).
قال تعالى: ((وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ))، يقول تعالى: أي أطلعنا عليهم الناس، {لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف:21]، ذكر غير واحد من السلف: أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة، وقال عكرمة: كان منهم طائفة قد قالوا: تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد، فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك] {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا} [الكهف:21]؛ لأن الضمير هنا على هذا التفسير ((لِيَعْلَمُوا)) أي: ليعلم الذين عثروا عليهم أن وعد الله بالقيامة حق، وأن الساعة لا ريب فيها، وأن بعث الأجساد حق، ((وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا)).
قال: وذكروا أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة لشراء شيء لهم ليأكلوه، تنكر وخرج يمشي في غير جادة الطريق -التي هي وسطه أو الطريق الكبير- حتى انتهى إلى المدينة، وذكروا أن اسمها دقسوس، وهو يظن أنه قريب العهد بها، وكان الناس قد تبدلوا قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، وأمة بعد أمة، وتغيرت البلاد ومن عليها كما قال الشاعر: أما الديار فإنها كديارهم وأرى رجال الحي غير رجاله فجعل لا يرى شيئاً من معالم البلد التي يعرفها، ولا يعرف أحداً من أهلها ولا خواصها ولا عوامها، فجعل يتحير في نفسه، ويقول: لعل بي جنوناً أو مساً أو أنا حالم، ثم يقول: والله ما بي شيء من ذلك، وإن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة.
ثم قال: إن تعجيل الخروج من ههنا لأولى لي، فأراد أن يأخذ طعاماً ثم يخرج مسرعاً، ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام، فدفع إليه ما معه من النفقة، وسأله أن يبيعه بها طعاماً، فلما رآها ذلك الرجل -رأى النفقة- أنكرها، وأنكر ضربها- الأختام التي عليها والصك- فدفعها إلى جاره، وجعلوا يتداولونها بينهم، ويقولون: لعل هذا وجد كنزاً، فسألوه عن أمره، ومن أين له هذه النفقة؟ لعله وجدها من كنز، وممن أنت؟ فجعل يقول: أنا من أهل هذه البلدة، وعهدي بها عشية أمس، وفيها دقيانوس، فنسبوه إلى الجنون، فحملوه إلى ولي أمرهم، فسأله عن شأنه وخبره، حتى أخبرهم بأمره، وهو متحير في حاله وما هو فيه، فلما أعلمهم قاموا معه إلى الكهف -ملك البلد وأهلها- حتى انتهى بهم إلى الكهف، فقال لهم: دعوني حتى أتقدم معكم في الدخول لأعلم أصحابي، فدخل، فيقال: إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه، وأخفى الله عليهم خبرهم، ويقال: بل دخلوا عليهم ورأوهم وسلم عليهم الملك، واعتنقهم وكان مسلماً فيما قيل، واسمه يندوسيس، ففرحوا به وآنسوه بالكلام، ثم ودعوه وسلموا عليه وعادوا إلى مضاجعهم، وتوفاهم الله عز وجل، والله أعلم.
قال قتادة: غزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة - وهو أحد قادة المسلمين الذين كانوا يغزون الروم، فمروا بكهف في بلاد الروم- فرأوا فيه عظاماً، فقال قائل: هذه عظام أهل الكهف، فقال ابن عباس: لقد بليت عظامهم من أكثر من ثلاثمائة سنة، رواه ابن جرير.
والله أعلم كم مضى عليها حتى بليت، وماذا شأنها الآن؟ وقوله: ((وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ)) أي: كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيئاتهم، أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان، ((لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ)) وهذا يؤكد أنهم اطلعوا عليهم جميعاً؛ لأن الله قال: ((أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ))، فيدل أنهم عثروا عليهم جميعاً وليس على واحد منهم فقط، فالقول بأنهم رأوا الأول وسمعوا بالبقية فيه نظر، إذ إن الآية تفيد أنهم دخلوا الكهف ووجدوهم.
يقول: أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان: ((لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ)) أي: في أمر القيامة، فمن مثبت لها ومن منكر، فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف -يعني: اطلاعهم على أصحاب الكهف- حجة لهم وعليهم أي: حجة للمثبتين للبعث وحجة على المنكرين.
((فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ)) أي: سدوا عليهم باب كهفهم، وذروهم على حالهم، وهذا يدل على أنهم ماتوا آنذاك.
((قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا))، حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين: أحدهما: أنهم المسلمون منهم والثاني: أهل الشرك منهم، والله أعلم.
والظاهر أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، فالذين غلبوا على أمرهم لم يصفهم الله بصفة العلم، وإنما بصفة الغلبة.
قال: ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد)، يحذر ما فعلوا.
وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق، أمر أن يخفى عن الناس، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده، وفيها شيء من الملاحم وغيرها، والرقعة مثل الأوراق عندنا لكنها من جلد أو نحو ذلك فيها ملاحم وقعت في بني إسرائيل، فأمر عمر بثلاثة عشر قبراً -فيما ذكر- أن تحفر، وأن يدفن الجسد الذي وجدوه على حاله كيوم مات في واحد منها، وتغلق جميعاً، حتى لا يدري الناس في أي المقابر دفن، ووجدوا مكتوباً عنده أنه النبي دانيال، فالله عز وجل أعلى وأعلم، فإن مثل هذا الخبر متلقى من أهل الكتاب، ولم يرد في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ذكر اسم ذلك النبي، وإنما قد يكون من أنبياء الله سبحانه وتعالى، وقد يكون من أوليائه، وظنه بعضهم على غير ما هو عليه، فالله عز وجل أعلى وأعلم إلا أنه يبدو أنه رجل صالح؛ لأنه لم يتغير بدنه، وهذا من كرامات الأنبياء والشهداء فقط، والمقصود أنه أُخفي قبره.