أتي بالغلام فقيل له: ارجع عن دينك فأبى الغلام، وموقفه يختلف عن جليس الملك وعن الراهب؛ لأنه هو الذي دعا الناس، وله منزلة في قلوبهم، وصاحب الدعوة التي سمعها الناس أمره أخطر بكثير، فلا يريد الملك أن يكون هذا الغلام بطلاً في أعين الناس، بل يحاول الاحتواء أولاً كما ذكرنا، فيبدأ بالترهيب البطيء المدى لعله أن يرجع، ويحاول بكل طريقة أن يرجع الغلام ولكن بلا فائدة، فالذي أظهر كلمة الحق عليه مسئولية ضخمة أضخم بكثير ممن يعبد الله عز وجل سراً.
والناس موقفهم سوف يتحدد بناء على موقف الغلام، هل يقبلون الحق أم يرفضونه؟ فله منزلة في قلوب الناس، ولذا حاول الملك أن يستوعبه وأن يجعله يرجع بنفسه، فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه وقال: اذهبوا به فاصعدوا به إلى جبل كذا وكذا، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه؛ لأنه كلما صعد ورأى المسافة ازداد خوفه، ففي هذا ترهيب طويل المدى لكي يوقع الخوف في قلبه، فقال: اللهم! اكفنيهم بما شئت، وفي هذا تفويض الأمر إلى الله، والأدب مع الله عز وجل حيث لم يقل: يا رب! أنزل عليهم صاعقة، أو يا رب! ألق بهم، بل قال: اللهم! اكفنيهم بما شئت، فهذا توكل على الله عز وجل، وثقة في الله عز وجل، فرجف بهم الجبل فسقطوا ورجع يمشي إلى الملك، والجزاء من جنس العمل، فإنهم أرادوا أن يسقطوا الغلام من ذروة الجبل فسقطوا هم، ونجا الغلام بفضل الله عز وجل.
والغلام صاحب قضية وصاحب دعوة، ما وجدها فرصة حتى يهرب، بل رجع يمشي إلى الملك فقال: ما فعل أصحابك؟ -وكان الذين معه أشداء وأقوياء جداً- قال: كفانيهم الله تعالى، وفي هذا إغاضة عظيمة للملك، فدفعه إلى نفر من أصحابه عناداً منه وغباء وجهلاً، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور أي: سفينة، فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، وهذا غباء وجهل عظيم، فقال: اللهم! اكفنيهم بما شئت، فانكفأت السفينة فغرقوا ورجع يمشي إلى الملك.
فقال: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله تعالى، ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ فالملك الآن أصبح لا يريد إلا أن يقتل الغلام غيظاً وكمداً، حتى أنه لم يفكر في عواقب الأمر، فصار يتقبل الأوامر من الغلام، وفي هذا إذلال للملك وإهانه له، فهو بقوته وبمكره لم يستطع أن يقتل الغلام.