ثم ذكر الله سبحانه وتعالى معنى آخر من معاني التوحيد والإيمان وهو: ((وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا))، فهنا انفراده سبحانه وتعالى بالحكم، وهذا يشمل الحكم الكوني القدري، والحكم الشرعي الديني، والحكم الجزائي يوم القيامة، فالله عز وجل لا يشرك في حكمه أحداً، فأحكامه القدرية تجري بأوامره سبحانه وتعالى، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82]، وهو سبحانه وتعالى لم يجعل لأحد من الخلق لا لنبي ولا لملك ولا لولي من الأولياء شيئاً من تدبير الكون أو النفع أو الضر، قال عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أءله مَعَ اللَّهِ} [النمل:62]، فهذا يدل على أن الله لم يجعل هذا لأحد، ولذلك لا يشرك في حكمه الشرعي أحداً من الخلق، كما قال عز وجل لخير خلقه محمد صلى الله عليه وسلم لما قال له الكافرون: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس:15]، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ليس شريكاً لله في الحكم، وإنما هو من عند الله سبحانه وبوحيه، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ألا إن ما حرم رسول الله كما حرم الله، ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه).
إذاً لم تأت هذه الأحكام التي حكم بها النبي عليه الصلاة والسلام من قبل نفسه، كما قال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} [النساء:65]، فالرسول ليس شريكاً مع الله، وحكمه ليس شركاً، ولا يستقل بتشريع، وإنما السنة كالقرآن في التشريع في معرفة حكم الله، فحكم الله بالقرآن هو حكمه بالسنة، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يشرع للناس من قبل نفسه، إنما يشرع لهم بأمر الله.
والشرعة معناها: الطريقة المسلوكة وهذه طريقة معنوية، فشرع النبي عليه الصلاة والسلام أي سيره على طريق، وهذا الطريق هو ما أمر الله عز وجل به وشرعه.
فلا يجوز أن يعتقد لأحد أنه شريك لله سبحانه وتعالى في حكمه الشرعي، ولذلك قال علي رضي الله عنه لما قال الخوارج: ((إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ)): كلمة حق أريد بها باطل، لما أرادوا منع أن يحكم بين الناس بأحكام تصدر من قبل حكام المسلمين، فاستدلالهم بالآية جهل منهم؛ وذلك لأنه لا يشرك مع الله عز وجل في حكمه أحداً، وهذا لا يعني أن الناس لا يتحاكمون فيما بينهم، فلا يحكم بعضهم على بعض بالشرع، بل بالتزام شرع الله سبحانه وتعالى.
ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له الصحابي أبو العسيف: اقض بيننا بكتاب الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (والله لأقضين بينكما بكتاب الله، الغنم والجارية رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأة هذا الرجم)، فالرسول صلى الله عليه وسلم يحكم بما أنزل الله، كما قال تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:48]، وبذلك لا يجوز لأحد أن ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يحكم من قبل نفسه؛ لأن هذا من الشرك، فكيف بمن يعتقد أن الحكم أصلاً هو للسفلة والفجرة والكفرة والمنافقين الذين لا علم لهم بالدين؟! فهذا من الكفر الأكبر المستبين بلا نزاع بين أحد من علماء المسلمين، ومن الأمر الواضح البين، وكذلك من اعتقد أن للبشر أن يشرعوا ما شاءوا من أحكام دون شرع الله سبحانه وتعالى ودون امتثال أوامره عز وجل وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي هو في الحقيقة لا يحكم من قبل نفسه، إنما هو يبلغ عن الله: ((قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ))، فمن اعتقد أن للناس أن يحكموا بما يرونه عدلاً من غير الله فهو كافر خارج عن ملة الإسلام، وهذا أمر ظاهر جلي لكل من تأمل، وهذا الأمر ليس ببعيد، وإنما أعني بذلك أنه وإن كان كل الناس اليوم بحمد الله تبارك وتعالى أو أكثرهم أو عامتهم إلا طائفة من الزنادقة المنافقين والعلمانيين الذين أعلنوا ومازالوا يعلنون أنهم لا دخل لهم بالدين، لكن الكثرة الغالبة من المسلمين يعتقدون لزوم الحكم بشرع الله سبحانه وتعالى، وأن الحكم لله سبحانه وتعالى.